الدكتور الأحمدى أبو النور يتحدث لمحررة آخر ساعة أنوار إلهية.. وفيوضات سماوية.. روحانيات عالية.. طقوس خاصة.. تنافس علي الطاعات.. كل هذا السمات تتلخص في شهر واحد في السنة يحاول فيه المسلم أن يسمو بنفسه محلقا بروحه في آفاق عالية.. وتتجلي هذه الطقوس بشكل أكبر في مجتمعنا المصري الذي لايزال محتفظا بعبق التاريخ للحفاظ علي الطقوس الدينية فالشوارع ترتدي زيا مختلفا والمساجد تمتليء بالمصلين.. موائد الرحمن تتحدي الظروف الاقتصادية الصعبة وتعكس كرم الشعب المصري مهما عايش من أزمات!! بهذه الكلمات التي تفيض بالسمو الروحي وصف العالم الجليل الدكتور محمد الأحمدي أبو النور (عضو هيئة كبار العلماء وزير الأوقاف الأسبق) الأجواء الأصيلة لمظاهر الاحتفال بشهر رمضان المبارك، وأجاب عن كل التساؤلات التي طرحتها (آخر ساعة).. حول فضائل ومزايا الشهر الكريم، وماينبغي للمسلم أن يفعله للفوز برضا الله ليكون صيامه مقبولا! سألت الدكتور محمد الأحمدي أبو النور في بداية حواري معه: هل اختلف الشعور برمضان حاليا عن الماضي؟ ولماذا؟ - إن استقبال المسلمين لرمضان عبر التاريخ والزمن له مكانة خاصة تنمو مع الأيام وينتظره الكبار والصغار لأن الأسرة تتغير عاداتها في رمضان فبينما كان هناك إفطار في أول النهار أصبح في آخره وقت المغرب.. وبالتالي يحسون بتغيير في هذا الشهر العظيم.. وعبر التاريخ فالمسلمون في العالم الإسلامي كله يستقبلون رمضان استقبالا خاصا.. فشهور الحج تستقبل باحتفال كبير وكذلك شهر رمضان لأنه شهر نزول القرآن والوحي علي النبي([) وبداية رسالته من أول اقرأ والأمة كلها تعي أنها أمة (اقرأ). قراءة وتعلم وتطور ونزلت بعدها بقليل (القلم) تأكيدا لما ينبغي عليه المسلم أن يطور نفسه وحياته ومجتمعه مؤكدا علي القراءة والكتابة والتعلم والتطور.. وقد يختلف الأمر قليلا فيما يتعلق بشكل فانونس رمضان وأغانيه ولكن الجو كما هو من إقبال المسلمين علي المساجد أكثر في هذا الشهر من الأيام العادية وكذلك الاستماع لآيات القرآن الكريم وكثير من الأحاديث النبوية والمسلسلات الرمضانية التي يتمني فيها المسلم أن تكون منبثقة من تعاليم الإسلام وعن الصحابة وأمهات المسلمين.. ولذلك فالمسلم كل عام يستقبل رمضان بشوق شديد فهو شهر الصوم والقيم والسلوك والأخلاق العادية. رمضان شهر الانتصارات وبم يتميز شهر رمضان عن باقي السنة بخلاف الصوم؟ - يتميز بذكريات الانتصار فقد انتصرنا في الغزوات والحروب.. فانتصارات المسلمين في رمضان كثيرة جدا سواء في الغزوات مثل غزوة بدر وحتي حرب73 في السادس من أكتوبر العاشر من رمضان انتصر جنودنا وهم صائمون لأننا نأخذ جرعة روحية للقتال من روحانيات هذا الشهر العظيم فقد كان الشاعر عبد الله شمس الدين يحمس الكتائب والناس للحروب والانتصار ويقول أشعاره الحماسية.. فرمضان هو شهر المنهج الإسلامي وانبثاق النور والهدي من غار حراء للعالم كله وهو شهر بناء الإنسان فالمسلمون عندما كانت تنزل الآية ينصتون لها ويطبقونها في حياتهم وبذلك يكون المنهج والتطبيق. مزيد من القدرة! يقوم الإنسان في رمضان بأشياء لايستطيع القيام بها في الأوقات العادية بم تفسر ذلك؟ - تفسير ذلك أن رمضان يعطي طاقة روحية تعطي بدورها مزيدا من القدرة التي تأتيه في هذا الشهر أكثر من الأيام العادية وذلك من الانطلاق الفكري والذكاء والتفكر وكذلك الانطلاق الروحي بالعبادة وليس ذلك متوقفا علي الجانب المادي فحسب ولكن من الجانب الروحي الذي هو أكثر تأثيرا في عظائم الأمور ففي غزوة بدر كان عدد المسلمين قليلا جدا وعدد المشركين أكبر بكثير ولكن المسلم كانت له طاقة روحية كبيرة يتحمل مالا يتحمله غيره وتحقق لهم النصر.. وأيضا أن الله يمد المؤمن المتصل بالله الذي ترسخ فيه الإيمان يمده بقوة من عنده ويمده بالملائكة تعمل معه مالا يستطيعه وبالتالي يتحمل المرء في رمضان ما لايتحمله في غيره.. ويحضرني الآن أن أذكر أنه في غزوة أحد حزن أنس بن النضر من هزيمة المسلمين فدخل مع الكفار في معركة وتحمل أكثر من 80 ضربة بسيف ورمح ونبال. طاقة تفوق الخيال تحمل ضربات عديدة في جسمه واستمر رغم ذلك يقاتل ومعني ذلك أن الميزان عندما يكون ميزان الروح يتحمل الإنسان أكثر من الممكن وهذا يتجلي في رمضان لأن الله يعطيه طاقة يفوق بها غيره وينجز ما لاينجزه في سواه. هل الصوم هو الذي يجلب هذه الروحانيات الهائلة؟ - الصيام الحقيقي هو الذي يفعل ذلك.. لأن الصيام درجات: النوع الأول وهو صيام الماديات فحسب وهو عن المأكل والمشرب ولكنه يغتاب ويكذب ويسرق ويفعل المعاصي.. والنوع الثاني وهو صيام عن المأكل والمشرب والشهوات حتي الحلال منها.. فالنوع الأول هو صيام عامة المسلمين.. أما النوع الثاني الذي يصوم فيه عن المأكل والمشرب والمشتهي والهوي فهو صيام خاصة المسلمين.. ولكن هناك نوع ثالث من الصوم وهو أن يصوم عن أي شيء بخلاف الله تعالي وهو صيام خواص الخواص وهو أعلي الدرجات. بين الحق والباطل ولو أن خواص المسلمين كثر منهم العدد سيكون بريد نجاحهم في حياتهم وهو أمر يعود بالخير علي المرء.. وعندنا قاعدة تقول: (واتقوا الله ويعلمكم الله)، كذلك: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) أي تفرقون بين الحق والباطل فلا تقعون في الباطل ومعني ذلك أن المتقي عندما يكون باحثا في بحث علمي أيا كان نوع البحث فسوف يسدد الله خطاه.. فنحن نريد أن نربط بين التقوي والنجاح في الحياة فعندما ينجح الإنسان كتقي فالحرام لايقترب منه.. فإن شئنا أن نطور مجتمعنا فنركز علي الإنسان التقي لأنه سوف يكون لديه الأخلاف العالية التي تدفعه لعمل كل ماهو خير فهو سيكون بارا بوالديه واصلا لرحمه وينهي عن كل الموبقات أمينا علي المجتمع. قصة يوسف الصديق ولاننسي يوسف الصديق عليه السلام الذي عرفت مصر سلوكه وتقواه فذكر الله تعالي في كتابه ذلك عندما خيره الملك فطلب منه أن يجعله أمينا علي الخزائن في قوله تعالي: {اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.. ولذلك أريد أن أقول إن المتقي الذي يترفع عن دنايا الناس.. يعوضه الله عن كل ذلك بكرمه الواسع ويمكنه في حياته فإذا ترفعت عن مال لا أستحقه أو رشوة أو سرقات أو عمولات خوفا من الله تعالي وعن سرقة الشعب فسوف يدخر الله لي كل ذلك ويعوضني من عنده. رمضان خارج الحدود ماذا عن رمضان في المجتمعات غير الإسلامية وبم تشعر القلة المسلمة هناك؟ - أتيح لي أن أري في هولندا أقاربنا هناك وهم قلة والكثرة هناك غير مسلمين.. ولكني وجدت أن المسلمين يتواصلون ويقبلون بأعمالهم الدينية سويا وأذكر أنه في أحد أعياد الفطر بعد رمضان في مدينة (أترخت) قريبة من أمستردام والمسجد الذي أديت فيه مع المسلمين صلاة العيد كانت الشرطة تحيطه وتحيط شوارع المجمع حتي تضمن أمن المصليات وبعد نهاية صلاة العيد تحدث المسلمون مع الشرطة الهولندية وقالوا لهم تعالوا معنا سنوزع صدقة الفطر فسألتهم الشرطة هل هذه تعاليم الدين عندكم فقالوا لهم: نعم فكان لذلك أثر طيب عندهم وقالوا إن هذا دين عظيم وشهدوا لديننا بالخير والاحترام. الزواج من مسيحية أتذكر أيضا قصة شاب مصري جاء يقص عليّ قصته وهو مقيم هناك منذ عشرين سنة.. فقد أحب فتاة كان أبوها قسيسا وكذلك عمها وذهب ليتقدم لها ويتزوجها فرفضوا.. فاستسلم للأمر الواقع ولم يلح ولم يغضب وبعد شهر أو شهرين أرسلوا له يطلبونه وقالوا له إننا موافقون علي زواجك من ابنتنا فتعجب وسألهم عن السبب في موقفهم الأول وموقفهم حاليا فقالوا له: في البداية رفضنا لأننا حسبنا أنك غررت بها وحاولت الضغط عليها للدخول في الإسلام ولكن بعد ذلك تأكدنا أنها هي التي دخلت الإسلام برغبتها وأنها قرأت فيه ودرست ما به واقتنعت به كدين وأحبت الدخول فيه بإرادتها دون الضغط من أحد.. غير أنك لم تغضب ولم تفتعل أي مشكلات ولكنك تركتنا بحريتنا نختار الأمر بإرادتنا فتأكدنا أن هذا الدين يدعو إلي الأخلاق الحسنة والقيم النبيلة فكان هذا الشاب واجهة حسنة لهذا الدين الحنيف. نموذج طيب للمسلم فالإسلام بين الأطياف الأخري سلام وأمن وهذا الرجل كان نموذجا طيبا للإسلام.. ولذلك أقول إننا إذا دعونا غيرنا لديننا يكون بدون ضجة ولا انفعال ولكن أعطيتهم الصورة الجميلة عن المسلمين ولا أتعدي علي أحد.. أقوم بواجبي خير قيام أطبق تعاليم الإسلام في مجتمع غير مسلم وأحمل الحب والسلم وذلك سيكون له إيجابية في الخير وحتي يكونوا محبين لنا وغير كارهين. هل يشاركنا غير المسلمين في الشعور بخيرات وتميز هذا الشهر الكريم؟ - نعم .. فقد كان لي أصدقاء في الصعيد ونجع حمادي يقولون إن إخوتنا المسيحيين يحترمون المسلمين ولايتناولون طعاما ولاشرابا في الشوارع أو في العلن أمامهم احتراما لمشاعرهم وهذا ينعكس في تقوي المسلمين أيضا وبدوره ينعكس علي المجتمع كله في علاقات الود والحب والتآخي ويكون بيننا السلام والأمن والمحبة ونحن علينا رسالة نحوهم ألا نقطب نحوهم وأن نبتسم لهم ولانضمر لهم الكراهية. سفير هرقل للنبي([) وأذكر أن هرقل أرسل إلي النبي([) سفيرا ردا علي رسالته صلي الله عليه وسلم وكان النبي([) بجيشه في تبوك وجاء السفير وكان اسمه (التنوخي) وسأل عن النبي([) وذهب إليه وسلم الرسالة فسأله النبي([) من أي البلاد أنت.. فقال : أنا من (تنوخ) فقال : يا أخا تنوخ هل لك في الإسلام دينك ودين آبائك.. فتبسم الرجل وقال إني رسول قوم أرسلوني إليكم ومن حقهم أن أعود إليهم كما جئت من عندهم ودعني أدرس الأمر.. فماذا قال الرسول ([)؟ وهل غضب؟ كلا فلم يغضب ولم ينفعل وقال: إنك لاتهدي الأحبة ولكن الله يهدي من يشاء.. ثم قال له أنت سفير وغريب ومن حقك علينا أن نكرمك ونبحث لك عن هدية ولكن نحن قوم مرملون أي في حرب وأيدينا علي التراب. إكرام الرسول للسفير فقال عثمان بن عفان أنا عندي هديته وأهداه حلة جديدة لأن عثمان كان تاجرا فأعطاها له نيابة عن الرسول([) ثم نظر الرسول ([) ووجد الجو أظلم فقال للمسلمين: هذا رجل مسافر فهل يوجد فيكم من يضيفه وبالفعل قاموا باستضافته فهذا الرجل مع أنه لم يدخل الإسلام بعد دعوة النبي([) له فلم يتغير معه النبي([) والمسلمون ولكنهم أظهروا له الحب والود وأخلاق الإسلام العالية ولم يظهروا له الكراهية أو الحقد وهذه القصة نهديها لمن يضمرون الكراهية للآخر.. هذا الرجل لما عاد استعاد شريط العلاقة واللقاء وماهي إلا فترة وجيزة إلا وأسلم الرجل وبالتالي أخذنا من هذا أن المسلم ليس بلازم أن يفرض الإسلام علي الناس بالإكراه ولكن أعطيه الفرصة ليختار برضاه. خادم النبي يهودي! والرسول ([) كان يخدمه المسلم وغير المسلم فأنس كان مسلما وكان هناك غلام يهودي عنده أيضا ولما مرض زاره الرسول([) فأحس الرسول أنه في مرض الموت فدعا الغلام للإسلام فنظر الغلام إلي أبيه.. فقال له أبوه أسلم وأطع أبا القاسم فأسلم الغلام وبالفعل توفي علي الإسلام قال تعالي: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}. الحالة الاقتصادية المتردية والأحوال المعيشية السيئة في مصر الآن هل أثرت علي متطلباته وطقوسه أو الفرحة به؟ - لا .. إطلاقا.. الفرحة بهذا الشهر العظيم طغت علي كل شيء.. لأن المسلم يأمل فيه أن يري الفرحة ويري أنه كلما أقبل علي الله أقبل الله عليه.. وأن الله يأخذ بيد الفرد والمجتمع للخروج بهم من هذه الأزمات.. {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب} ولذا فهو يأمل كل الخير في هذه الأيام المباركة التي لايستطيع شيء أن يعكر صفوها. أهلا بقدوم رمضان عندما يأتي شهرا رجب وشعبان ويقترب رمضان نقول أحيانا إننا نشم رائحة رمضان.. فهل رمضان له رائحة أو نكهة معينة نشعر بها قبله؟ وبم تفسر ذلك؟ - الرائحة تتجسد في قرب مجيء رمضان.. فالجو الروحي يكون طاغيا ونتنسم بركات رمضان والتزاور فيه ونتعشم أن يفيض علينا خيره وأنواره.. فهو ليس شهرا عاديا ولكنه شهر الخير والقرآن.. العهد مع الله كيف يستعد المؤمن من الناحية الروحية لاستقباله؟ - بالمعاهدة مع الله والعزم الصادق فيعاهد المسلم ربه بأن يكون نعم الإنسان ونعم المسلم المتخلق بأخلاق القرآن البار بمجتمعه نافعا له غير ضار ثم يلتزم بالوفاء عندما يأتي رمضان ويفي بذلك في باقي الشهور ويسير علي هذا النهج ويستمر في تطبيق منهج رمضان حتي بعد انتهائه ولاينكث عهده مع الله. وكيف يعلي المؤمن من قيمة الترشيد والزهد في أيامه المباركة؟ - أولا ينبغي أن يعي المسلم في كل أحواله أن يتخلق بأخلاق القرآن وخصوصا في رمضان من القيم التي يلزمنا بها كالاقتصاد في الانفاق والإحاطة بأن التبذير منهي عنه أشد النهي.. قال تعالي: {ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}. حق الفقراء والمساكين ولايجب التباهي في التنافس بالولائم ولكن التنافس يكون في أن يفطر عددا أكبر حتي ولو علي تمرة أو شربة ماء.. ومهم جدا أن نرعي حق الفقراء والمساكين في هذه الأيام المباركة وبالتالي فنحن نريد أن يدخر المؤمن لنفسه ثوابا وهذا الثواب لايكون بقصر الولائم علي الأغنياء ولكن تشمل الفقراء والمساكين حتي لايتصور هؤلاء أننا بعيدون عنهم ولكننا نشعر بهم وقريبون منهم.