بعد مرور أكثر من عامين علي اندلاع ثورة يناير 2011 ومع فشل محاولات استرداد أموال مصر المنهوبة، وبطء عمليات التقاضي في قضايا الكسب غير المشروع، بدأ النظام الحاكم في التوجه نحو عقد "صفقات تصالح" مع عدد من رموز ورجال أعمال نظام مبارك البائد، علي غرار ما بدأت بوادره في الأيام القليلة الماضية، مثل تسوية المديونيات الضريبية ورد الأموال المنهوبة في قضايا الكسب غير المشروع المنظورة أمام المحاكم، للمتهمين في الداخل أو الهاربين خارج البلاد. خبراء اقتصاد رحبوا بهذه الخطوة مادامت هذه القضايا غير متعلقة بالدم أو قتل المتظاهرين، لما لها من انعكاس إيجابي علي أوضاع البلاد الاقتصادية، وما تفتحه من أبواب جديدة للاستثمار والتشجيع عليه. في الوقت الذي أمر فيه النائب العام المستشار طلعت عبدالله يوم الأحد الماضي، بحبس أنس الفقي وزير الإعلام الأسبق لمدة 15 يوماً علي ذمة التحقيقات، لاتهامه بمنح هدايا لعدد من كبار رموز النظام السابق بدون وجه حق، علي نحو مثل إهدار المال العام بقيمة 6.5 مليون جنيه، كانت خطي أخري موازية تسير في اتجاه مصالحات مع رموز أخري من رجال أعمال متهمين في قضايا مالية إبان فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك، حيث عاد رجل الأعمال المعروف نجيب ساويرس إلي القاهرة، بعد اتفاق مع آل ساويرس علي سداد نحو 7.2 مليار جنيه، ضرائب مستحقة للدولة، نظير صفقة بيع شركة تمتلكها العائلة لأخري فرنسية، حيث كان النائب العام أصدر قراراً بمنع عدد من رجال الأعمال المنتمين إلي عائلة ساويرس من السفر في الوقت الذي كانوا فيه خارج البلاد، علي خلفية دعوي قضائية حركتها مصلحة الضرائب ضدهم بتهمة التهرب الضريبي، وانتهت المفاوضات إلي عودتهم إلي مصر مجدداً مقابل تسوية هذه الاستحقاقات المالية، ورحبت مؤسسة الرئاسة بهذه الخطوة، وهو ما بدا واضحاً في إرسال مندوب عنها إلي مطار القاهرة مطلع الأسبوع الجاري لاستقبال آل ساويرس العائدين في مطار القاهرة الدولي. في سياق مواز، بدأت مفاوضات مماثلة تجري خلال الأيام الأخيرة مع رجل الأعمال الهارب حسين سالم، أحد الأصدقاء المقربين من الرئيس السابق مبارك، تقضي بالتصالح معه في قضية الفساد المالي المتعلقة بعقود بيع الغاز المصري إلي إسرائيل، وذلك في مقابل تنازل سالم عن 75٪ من قيمة ثروته التي قدرها محاميه طارق عبدالعزيز ب11.2 مليار جنيه، موزعة بين مصر وإسبانيا التي يقيم فيها منذ خروجه من مصر في أعقاب ثورة يناير. وربطت نيابة الأموال العامة التصالح مع سالم، بقيامه بالتدخل لدي شريكيه الأجنبيين لإقناعهما بالتنازل عن دعوي التحكيم الدولي التي أقاماها للمطالبة بتعويض مالي من الحكومة المصرية عقب فسخ التعاقد الشركة المملوكة لهما وحسين سالم والتي كانت تتولي تصدير الغاز المصري إلي إسرائيل. وبدت الفرصة الأسرع في تطبيق التصالح مع وزير التجارة والصناعة الأسبق رشيد محمد رشيد (الهارب خارج البلاد)، حيث تردد أنه الأكثر جدية في التصالح مع الحكومة، وعزز ذلك تأكيد المستشار مصطفي الحسيني المحامي العام الأول لنيابة الأموال العامة العليا في وقت سابق، أن عدداً من رجال الأعمال المصريين الهاربين والمتواجدين في الداخل والمتهمين في قضايا إهدار المال العام والإضرار به تقدموا بطلبات للتصالح والتسوية مع الحكومة، و قال الحسيني في تصريحات إعلامية إن رشيد محمد رشيد الأكثر جدية في التصالح مع الحكومة حتي الآن". وكان النائب العام المستشار طلعت عبد الله، أصدر قراراً في مارس الماضي بوقف إجراءات القبض علي رشيد محمد رشيد، تمهيداً لإعادة الإجراءات في القضايا المحكوم عليها ضده ومن ثم عودته للبلاد، وخاطب النائب العام في مذكرة رسمية الشرطة الجنائية الدولية "الأنتربول"، لوقف القبض والبحث عن الوزير الهارب ورفع اسمه من قوائم النشرة الحمراء وقوائم الترقب والوصول، وذلك بعد تقديم محاميه شيكات بمبلغ 15 مليون جنيه وهي قيمة الغرامات الصادرة بحق رشيد محمد رشيد في قضيتي تراخيص الحديد وتنمية الصادرات المتهم فيهما. في اتجاه يبدو ذا صلة، قررت محكمة جنايات شمال القاهرة أخيراً، قبول الاستئناف المقدم من محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق في عهد مبارك، وذلك علي قرار حبسه 15 يوماً علي ذمة تحقيقات جهاز الكسب غير المشروع وإخلاء سبيله بضمان محل إقامته. وكان جهاز الكسب غير المشروع، برئاسة المستشار يحيي جلال، استمع سابقاً إلي الوزير الأسبق، حول تضخم ثروته والحصول علي كسب غير مشروع. في المقابل، قال المستشار مصطفي دويدار المتحدث الرسمي باسم النيابة العامة: إن النيابة تدرس الطعن علي قرار إخلاء سبيل سليمان، مشيراً في تصريحات له عقب صدور القرار إلي أن النيابة تنتظر الاطلاع علي أسباب القرار حتي يتسني لها اتخاذ الإجراءات القانونية الصحيحة للطعن. ولا يعد الأمر بعيداً، عن الرئيس السابق مبارك نفسه، المتهم في قضية قتل متظاهري ثورة يناير، إذ يبدو أن فكرة التصالح معه في قضايا الفساد المالي واردة، وذلك في ضوء التصريح الذي أدلي به من قبل نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر، بأنه يؤيد الإفراج عن مبارك في مقابل دفعه لأموال وشريطة استفتاء الشعب علي ذلك، لافتاً إلي أنه يري من صالح الشعب الحصول علي أمواله بأي شكل. من جانبه، لا يمانع د.أيمن رفعت المحجوب أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة القاهرة، من عقد هذه المصالحات، لكنه في الوقت ذاته يشترط ألا يكون المُتصالح معهم متورطين أو متهمين في قضايا دم، وقال في تصريحات ل"آخر ساعة": أرحب بهذه المصالحات ذات الصلة بسداد المديونيات والتهرب الضريبي وما إلي ذلك بعد تسويتها تماماً، حتي لو كانت تتضمن نسبة من التنازل عن جزء من هذه الأموال، وهو ما يعرف اقتصادياً بالتكلفة الجدية للخسارة أو تكلفة الفرصة البديلة، والتي تنقسم إلي شقين هما تكلفة القضاء مالياً من حيث دفع أتعاب المحامين المحليين والدوليين، والتكلفة الزمنية وهي قيمة الأموال المنهوبة حالياً وقيمتها عند التحصيل لاحقاً. ويضيف المحجوب: هذه الخطوات تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني، كون هذه الإجراءات تعمل علي طمأنة رجال الأعمال في الداخل والخارج بما يساعد في فتح مجالات جديدة للاستثمار في مصر، إذ لا يوجد بلد في العالم يقوم بسجن مستثمر، ولكن يجب إعادة النظر في القوانين المتعلقة بالتعثر المالي للمستثمرين، بحيث تُلغي عقوبة السجن مع تشديد العقوبة المالية في شكل غرامات كبيرة، أو إشهار الإفلاس ووقف حسابات المستثمر وهذا أسوأ من عقوبة السجن، حيث يتم وقف التعامل معه. من جهته، أكد معتز صلاح الدين رئيس الحركة الشعبية لاسترداد أموال مصر المنهوبة، أن الهيئة التنفيذية للحركة رفضت التصالح إلا من خلال استفتاء شعبي أو مجلس تشريعي منتخب، لافتاً إلي أنه لولا الجهود التي بذلتها الحركة في سبيل التنقيب عن هذه الأموال، وجمعهم لعشرات المستندات في هذا الصدد وتقديمها إلي الحكومة، والضغوط المستمرة في هذا السياق لرد الأموال المنهوبة إلي شعب مصر، لما حدث أي تقدم ملموس في هذه القضية. وأضاف صلاح الدين في تصريحات ل"آخرساعة" أن مسألة التصالح مع الفاسدين باتت أمراً واقعاً، وأنه لا مانع منها لكن يجب أن تتم وفق الشروط الأربعة التي سبق وحددتها الحركة، وهي أن تتولي النيابة العامة والقضاء وحده هذا الأمر دون التدخل من الجهات التنفيذية، وأن يتم إصدار تشريع خاص يختص بالتصالح مع رجال الأعمال الفاسدين أو من استولوا علي أموال الشعب بغير وجه حق، وكذا إنشاء صندوق خاص لإيداع هذه الأموال بعد استردادها تستخدم في مكافحة الفقر والقضايا الملحة، وأخيراً أن تستثمر جهود الدولة في استرداد الأموال.