داخل أحد مراكز الشباب مازالوا يرددون علي مسامع الصغار مقولة "العقل السليم في الجسم السليم"، دون إخبارهم بكيفية الحصول علي هذا الجسد السليم، ولأن أذهاننا ربطت بين الصحة والرياضة، فكانت كرة القدم أول ما جذبت الصغار إليها خصوصا الذكور منهم - لسهولة ممارستها فهي لا تحتاج سوي (كرة وحجرين لتحديد المرمي) - حتي كادوا من فرط حبهم لها يضحون بالتعرض للعديد من الإصابات، في سبيل "لعبة حلوة مع صحبة حلوة" في رحاب الأزقة والحواري والممرات، ليكون الشارع هو مدربهم الأول وموطن آمالهم الخائبة، بعد أن فشلت الدولة في توفير ساحات مخصصة لهم لممارسة الرياضة، وتركتهم عُرضة للإحباط والاستغلال من قبل ملاعب خاصة انتشرت بكثافة مؤخراً، لتتيح فُرصة اللعب بمقابل مادي يقتطعه الصغار من مصروفهم اليومي. ربما شاهد أغلبنا فيلم التجربة الدنماركية، الذي جسد فيه الفنان عادل إمام دور وزير الشباب، وظهر في مشهد يقوم فيه بجولة إلي أحد مراكز الشباب، ووجد المركز تحول إلي ساحات لتربية الأغنام، إذ وجد امرأة تعد أقراص الطعمية، ويلعب حولها أطفال مجردون من الملابس، بينما يجلس مدير المركز ومعه المدربون حول طاولة يدخنون الشيشة، وعندما جلس بينهم لمس جهلهم بنشاط المركز وبه.. قد يكون المشهد مضحكا لكنه واقعي لحالة مراكز الشباب، إذ حصر الدكتور أسامة ياسين، وزير الشباب الحالي، عددها ب 4352 مركزا علي مستوي مصر، بحاجة إلي تطوير، وذلك بعد عدة جولات له في المحافظات، ولأن الوزير لم يقص علينا ماشاهده، قررنا الذهاب إلي بعض مراكز الشباب، ونعرض ما ترتب علي إهمالها من ملاعب يمارس فيها القمار سراً. في حي المطرية بمنطقة عرب الحصن يقع أحد مراكز الشباب، الذي يعود عمره إلي ستينيات القرن الماضي، وسط حالة من الفوضي والعشوائية، التي زحفت علي أسواره، بعد رغبة الأهالي في استغلال هذه الأسوار بإنشاء أكشاك تجارية، ما كان سبباً لنزاع قائم بينهم وبين أعضاء مجلس إدارة المركز، الذين يتصدون لمحاولات الاعتداء، فيقول أيمن شحاتة، مدير مركز شباب عرب الحصن، إن المنطقة يغلب عليها طابع العداء، نظراً لسطوة العائلات عليها، ما جعل المركز يصل إلي أعلي درجات التدهور، الذي بات واضحاً في ردم الشارع للمركز بواقع 2 متر، وانهيار 18 مترا من أسوار الملعب الكبير، الذي تحول إلي مقلب للقمامة ومأوي لمتعاطي المخدرات، ويضيف: " نتعرض لتهديد كبير من قبل الأهالي، خصوصا أن كل واحد بيعمل اللي عايزه، ما جعلنا في حاجة إلي حراسة شرطية بدلاً من الغفير الذي أصبح غير قادر علي التصدي للاعتداءات المتكررة". ولأن مظاهر الإهمال متشابهة، قررنا أن نأخذ نموذجا آخر لأحد المراكز المتطورة نسبياً، الذي يتميز بتردد الشباب عليه وممارسة بعض الأنشطة، وهو مركز شباب عين شمس، الذي يبعد عن المركز السابق بتوقيت زمني ربع ساعة، ربما تتعجب من وصفه بالمتطور، بعد التأكيد علي أن جميع المراكز متدهورة، لكنك بمجرد رؤية لافتة المركز تعرف السر وراء أناقته، وهي شركة Adidas التي قادت عملية تطويره - وليست وزارة الشباب - خصوصاً ملعب كرة القدم وملاهي الأطفال، اكتفت الشركة بالتطوير وتركت مسئولية صيانة المركز علي مسئوليه، ما يمهد بتدهوره ومساواته بمثيلاته. يقول هشام عبد الواحد، ممثل شئون العاملين بمركز شباب عين شمس، إن التطوير تم منذ سنة ونصف، بعد أن كان المركز لا يصلح لاسطبل خيل، وماجذب الشركة إلينا هو موقع المكان المتميز ورقي سكانه، وبالفعل جددت ملاعب كرة القدم والسلة، وافتتح المركز بحضور عدد كبير من نجوم الكرة من بينهم محمد أبوتريكة ووائل جمعة وحازم إمام، يواصل: " تبقي أزمتنا الوحيدة في الصيانة، خصوصاً أن الميزانية التي تأتينا من الوزارة حوالي 15 ألف جنيه سنويا، لا تكفي شيئا، ما جعلنا نستثمر نصف المركز، وتأجير ساحة الجيم والكافيتريا، لتعود علينا بالدخل، بجانب تأجير الملاعب، وعضوية المشتركين الذين يصل عددهم إلي 9 آلاف مشترك، مقابل 25 جنيها سنويا للمشترك". هكذا حال مراكز الشباب التي كانت سبباً رئيسياً في إتاحة الفرصة لأصحاب الأراضي لاستغلال تردي أوضاعها ورغبة الشباب في ممارسة أهم أنواع الرياضات لديهم وهي "كرة القدم"، في بناء ملاعب رياضية مجهزة بأحدث التقنيات من إضاءة ونجيل صناعي وكافيتريات وغرف لخلع الملابس وحمامات، بجانب إقامة عدد من أكاديميات كرة القدم للأطفال من سن 10 إلي 16 عاما علي هذه الملاعب، وفي غضون سنتين زاد عدد ملاعب كرة القدم الخاصة التي يتم تأجيرها ما بين 8 و10 ساعات يومياً في المتوسط، وفقا لتقديرات مديري الكثير منها.. وترجع هذه الفكرة من الأساس إلي نادي وادي دجلة بضاحية المعادي (جنوبالقاهرة) عندما شرع عام 2006 في تأجير ملعب الكرة لغير أعضاء النادي، ثم تبعه نادي رؤية بضاحية 6 أكتوبر. لذا كان علينا الذهاب إلي هذه الملاعب، فاتخذنا طريق الهرم إلي قرية صفط اللبن التابعة لمركز كرداسة بمحافظة الجيزة، ولاحظنا زيادة عدد الملاعب الخاصة بها والمجهزة بأحدث التقنيات، التي في الغالب تقع علي أطراف المنطقة السكانية، ليسهل علي الشباب اكتشافها والوصول إليها بأقصي سرعة ممكنة، ففي الصباح يتركون مدارسهم من أجل ممارسة رياضة كرة القدم باتفاق مُسبق مع صاحب الملعب. وفي ملعب الشريف وجدنا فريقا من الأصدقاء يلعبون ماتش كما لو أنه الدوري، وجميعهم طلبة في معهد خاتم المرسلين الأزهري، تتراوح أعمارهم بين 16: 18عاما، قالوا إنهم تركوا المدرسة بإذن من آبائهم لممارسة كرة القدم، تحت شعار: "بدل ما أعمل حاجة غلط".. بمجرد التحدث إليهم تلمس حالة الاتفاق التي تجمعهم، ما جعلهم يرفضون انضمام أي غريب إليهم، حتي لا تقع خلافات بينهم فيما يخص المبلغ المتفق عليه، فيقول حسين يعقوب، أمين عام اتحاد طلاب الجيزة، الذي يعد بمثابة كابتن الفريق، "موعد لعبنا الأساسي هو يوم الأربعاء، نتفق قبلها في جروبنا علي الفيس بوك، علشان الكل يستعد، وأهلنا عارفين، لأننا لو كبتنا طاقتنا هنطلعها في حاجة غلط، ومفيش أحسن من لعب الكرة في الملعب بدل الشارع، خصوصا أنه من الصعب الانضمام لأي ناد لأنه محتاج فلوس وواسطة". وعن كيفية تقسيم المبلغ المخصص دفعه للملعب، يضيف: " واحد مننا هو المسئول عن تسليم الفلوس لصاحب الملعب، التي تبلغ 50 جنيها في الساعة تقسم علينا جميعاً". هل تمارسون قمار كرة القدم أي أن يتحمل الفريق الخسران مسئولية الدفع؟ - "لا.. فنحن كفريق نتجنب ممارسة هذا السلوك، حتي لا تشب الخلافات بيننا كما يحدث مع الباقين، التي قد تصل إلي تار في بعض الأحيان". وعن تشكيلة الفريق يقول حسن ديدا، حارس مرمي الفريق، الذي لقب ب "ديدا" بين أصدقائه، نسبة إلي حارس المرمي البرازيلي نيلسون ديدا، " كل واحد عارف نفسه هينفع في إيه، وأنا اخترت أن أكون حارس مرمي، لأن عجبتني فكرة الاختلاف، ولقيت نفسي بعرف أصد كويس"، متابعاً: " نفسي أكمل مشواري في الكرة، لكن مش عارف لو ماكملتش هعمل ايه، خصوصا أن الدولة مش بتهتم بينا، واحنا عارفين اننا لعيبة شوارع بس". وعن تجربة إنشاء الملعب وتكلفته، يوضح أحمد شيبسي صاحب النادي الملكي، الذي يبلغ من العمر 26 عاما، أن الهدف من وراء ملعبه هو إتاحة الفرصة للشباب لممارسة كرة القدم بجانب الاستثمار، وأنه يسعي إلي تطوير ملعبه، الذي تصل مساحته إلي 1200 متر، بتكلفة أكثر من 200 ألف جنيه، قائلاً: " التجهيزات ليست ملعبا وإدارة، بينما فكر وتطوير من وقت لآخر، إذ أخطط إلي تحويل الملعب إلي صالة مغطاة، إضافة إلي خبرتي في رياضة كرة القدم، بعد اجتيازي لتدريبات مختلفة في الكثير من الأندية، وحصولي علي شهادة خبرة من اتحاد الكرة، ما دفعني إلي إنشاء أكاديمية تتبع النادي لتعليم الشباب علي أيدي كباتن"، مضيفاً أن ظاهرة الملاعب انتشرت في الفترة الأخيرة عن جهل؛ فكل من يمتلك أرضا يحولها إلي ملعب بالتقسيط، ما دفع أصحاب الملاعب إلي الاتفاق علي سعر موحد لتأجير الملعب، بحيث يكون 50 جنيها للساعة صباحا و80 جنيهاً مساء. السؤال: هل هذه الملاعب توفر حلاً جذرياً لممارسة الرياضة بعد تدهور حال مراكز الشباب؟ - يري الدكتور محمد فضل الله، أستاذ التشريعات الرياضية في كلية التربية الرياضية جامعة حلوان، ومستشار النادي الاهلي للتشريعات واللوائح الرياضية، أنه من المستحيل تطوير مراكز الشباب بسبب قلة ميزانية وزارتها التي لا تكفيها، وبالتالي لابد من فتح حقوق الانتفاع في العمليات التجارية لدعم مراكز الشباب من خلال أموال تأتيها من مشروعات مختلفة، أما عن الملاعب المفتوحة فهي موجودة بكل أنحاء العالم لكن بطريقة مقننة، عكس مايحدث في مصر، فكل الملاعب بدون تصاريح وشُيدت من خلال الحي، كما أنها لا تخضع لكل المعايير التي تتمثل في مساحة الملاعب والاضاءة والقيمة الإيجارية والأرضية وعدد ساعات التشغيل والصيانة، بحيث يكون هناك ضمانة لتحقيق أغراضه الرياضية وليست التجارية فقط، علي شرط أن تقام هذه الملاعب في الأماكن التي تفتقر إلي أندية وليس بالطريقة العشوائية التي انتشرت بها، فهناك ملاعب تجاور الأراضي الزراعية والمصانع، وكل هذا يضر بصحة الشباب. ويستكمل: أن أزمة هذه الملاعب أنها لا تخضع إلي إشراف وزارة الشباب ولم تحصل علي تصريح من اتحاد كرة القدم أو وزارة الرياضة، لأن من المفترض ألا يتم إنشاء ملعب رياضي إلا بموجب تصريح رسمي من الاتحاد المختص باللعبة، لكي يكون هناك جهة رقابية، وفي حالة انضمامها إلي اتحاد الكرة لابد من مراعاة وضع حد أدني وأقصي لإيجارها، وذلك تبعاً للبيئة السكانية والحالة الاجتماعية، إضافة إلي الأخذ في الاعتبار الجغرافيا الرياضية، بمعني توزيع الرياضات وفقا للمناخ والطبيعة، ففي الإسكندرية تكمن أنشطة البحر، وفي الصعيد تكمن أنشطة القوة كالمصارعة.