لا أستطيع أن أرسم ملامح القاهرة 30 التي رسمها الكاتب الكبير نجيب محفوظ.. لكن القاهرة 40 تختلف اختلافا كبيرا.. المدينة الكبيرة الوديعة الهادئة، لم تعد وديعة ولا هادئة.. ففي منتصف الثلاثينيات أو بعدها قليلا تولي الملك فاروق حكم البلاد وكان صغير السن لكن هذا مالم يمنع المصريين من الغناء له جميعا أغاني الحب: يا مليكنا تعيش لينا.. وكان شارع فاروق يمتد من ميدان فاروق المكان الذي ولدت فيه والعتبة الخضراء وقد سميت كذلك لأنها آخر العتبات التي نصل بعدها إلي قصر عابدين مرورا بشارع عبدالعزيز.. أما قشتمر التي ذكرها نجيب محفوظ في أربعينياته فهي ميدان قشتمر في بدايته قريبا من شارع فاروق : قهوة قشتمر.. لا شك أن كثيرا من المثقفين كانوا يجلسون فيها أو إليها يتبادلون أحاديث اجتماعية وثقافية وأدبية خاصة أن البيت الذي كان يسكن فيه إبراهيم عبدالقادر المازني ( في شارع فاروق) في مواجهة القهوة.. أما ميدان قشتمر ذاته، فهو ميدان واسع كبير يصل من ناصيته عند شارع فاروق وحتي حديقة الظاهر.. وهناك يفتح أيضا علي ميدان آخر هو ميدان الظاهر الظاهر بيبرس حديقة الظاهر ويقع فيها أيضا جامع الظاهر جامع تاريخي بني هو والحديقة علي طراز إسلامي من عصر المماليك.. لكن هذا الميدان (قشتمر في الطريق إلي ميدان الظاهر) هذا الميدان الكبير أتصور أنه شهد أفظع (غارات) الحرب العالمية الثانية.. نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات.. وفي نفس الوقت نهاية السنة السادسة من عمري وبداية السنة السابعة نفس السنوات التي ودعت فيها الطفولة وبدأت سنوات الصبا. كل يوم فيها علامة حية وبارزة ليس من السهل نسيانها.. فقد ولدت في نواحي ميدان فاروق.. لكنني في كل عصر كل يوم كنا نتجه إلي ميدان قشتمر .. مع والدتي وإخوتي حيث تقيم جدتي لأمي.. كان لزاما علينا جميعا أن نذهب، فقد كانت المقولة الباقية في رأسي حتي الآن: إذا متنا نموت معا.. وإذا عشنا نعيش معا.. لكن الفرق كان كبيرا بين وجودنا في شارع بين الجناين حيث لم تسقط علينا أو أمامنا قنبلة واحدة في حين كانت القنابل والتوربيدات تتساقط علينا في ميدان قشتمر وعلي جانب البيت مباشرة (حيث قهوة قشتمر) أو في الميدان أمام واجهة البيت وسط الميدان هذه التوربيدات التي جعلتني وحتي يومنا هذا أعيش وأتذكر الحرب العالمية الثانية بكل لياليها وكأنها تحدث اليوم أو حدثت بالأمس حيث إنها لاتنسي أبدا.. إذ إنها دفعت بنا إلي أن نهجر بيتنا وبيت جدتي إلي بيت عمتي علي مشارف الريف هناك في دوران شبرا الذي يعد بعيدا عن قنابل هتلر وتوربيداته!