تتسع دائرة العنف وتتمدد في أرجاء مصر وتتعدد أشكالها وتتعقد.. فهناك لاعبون بالنار يمارسون دورهم في العلن ومن يفعلون ذلك من وراء الستار من مدعي الثورية والوطنية، لكن أن يصل الأمر إلي ظهور شباب كل همه الإحراق من خلف أقنعتهم وملابسهم السوداء وعصابات مسلحة في عدة محافظات تعيث في الأرض فسادا فنحن أمام سؤال مهم: أين ومتي تتحرك الدولة بكل أجهزتها الفاعلة والحازمة لوقف هذا التيار المتصاعد من العنف كي لايفلت الزمام ونصبح أمام بقايا دولة وبلد سيعاني أهله الكثير ولن يعود له أمنه وأمانه إلا بعد شهور وربما سنوات، ثمة فارق بين الثوري والفوضوي ومشعل الحرائق والبلطجي لكن تداخل تلك الأنماط الأربعة وماشهدناه من تواجدها في مكان واحد يشير إلي أن الثورة انحرف مسارها بعيدا وانجرفت نحو الفوضي العارمة!! كنا خلال العامين الماضيين أمام احتجاجات واعتصامات وإضرابات من فئات عانت الظلم والقهر، وتحقق الكثير من مطالبهم رغم أن عجلة الإنتاج أصبحت شبه متوقفة، وقاد ذلك إلي تجريف حاد في موازنة الدولة وارتفاع مديونيتها ولجوئها للاقتراض الخارجي عربيا ودوليا، لكن الجديد والخطير أن يتحول الغضب المشروع إلي موجة من العنف غير مسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث، وأن تصبح لغة الشباب الجديدة هي الحرق والتدمير.. والأغرب أن يبارك البعض ممن يسمون أنفسهم بالنخب هذا النهج المدمر بل ويصل الحال ببعض الإعلاميين أن يحددوا لهذا الشباب أهدافهم التي يوجهون إليها زجاجاتهم الحارقة بل وأسلحتهم الأخري! البلاك بلوك ومن قبلهم الأناركية وفي الوسط الألتراس يندفعون في موجات من الغضب ولكل أهدافه وطرقه ووسائله، لكن يد القانون تظل في التعامل مع عنف تلك الجماعات غائبة ومرتعشة خشية الاتهام المعلب والاستباقي إعلاميا وسياسيا لكل من يمثل سلطة، بأن المواجهة بحزم وبقوة تعني العودة لسياسة القهر التي كان يمارسها النظام السابق وقادت في النهاية لسقوطه، مما جعل القانون في إجازة جبرية فرضها منطق القوة في الشارع.. فكم من حوادث عنف جرت في السابق وتم الإفراج عن مرتكبيها باعتبارهم من الثوار.. وكم من حوادث اعتداءات علي المنشآت العامة سقط فيها ضحايا من الجانبين ثم نفاجأ بمن يطلق علي مرتكبي هذه الحوادث شهداء ومصابين ويتم إدراجهم ضمن المستحقة أسرهم تعويضات ومعاشات استثنائية. من المؤكد أن مايجري في مصر هذه الأيام تقف وراءه قوي لاتريد خيرا بالبلد، منهم من يصفي حسابه مع النظام بسبب خسائره المتوالية شعبيا ولايبحث إلا عن مصالحه وأطماعه الشخصية، ومنهم من علي صلة بدوائر خارجية، ولو تتبعنا هؤلاء جيدا خلال الفترة الماضية سنجد كثرة سفرهم للخارج وعلي فترات متقاربة كي ينفذ عبر شبكات تمويل ضخمة مهمة إغراق البلاد في دوامة الفوضي حتي لاتقف مصر علي قدميها من جديد، كما ظهرت تحالفات بين تلك النخب وفلول النظام القديم الذي مازال يمسك بالكثير من مفاصل الدولة وأجهزتها والكثير من رجال الأعمال الذين حققوا ثرواتهم من خلال شبكات الفساد وقنواته وصولا للأسرة الحاكمة كي يوجهوها نحو خلق حالة من الفوضي ودفع الشعب للحنين للاستقرار تحت القهر كما كان في نظام مبارك بدلا من الحرية التي جلبت عليهم الحالة التي يعيشونها هذه الأيام. أصاب حكم قضية مجزرة بورسعيد من لايريدون خيرا لهذا البلد بالصدمة خاصة بعد مسلسل أحكام البراءات متوالي الحلقات في قضايا قتل الثوار، نزل الحكم بردا وسلاما علي قلوب المكلومين من أسر ضحايا المذبحة وكذلك المصريين الشرفاء، لكن وكالعادة من لا يعجبهم شيء طالما ليس في صالحهم في أحكام القضاء شككوا في الحكم وأنه مسيَّس ولم يمتد للمحرضين علي أعمال القتل، رغم أن بقية الأحكام لم تعلن بعد وأن هناك مراحل أخري للتقاضي ربما ستكشف عن جناة آخرين، ولايمكن فصل ماجري بعد النطق بالحكم عن الأيدي التي تلعب من وراء الستار لتحويل مصر لساحة واسعة من الفوضي ومسلسل الحرائق الممتد عبر البلاد والأسلحة الخفيفة والثقيلة التي ظهرت في أيدي مجموعات المخربين الذين يسعون لتنفيذ مخطط مشبوه للانقضاض، ليس علي النظام القائم فحسب إنما علي الدولة وإسقاطها، شباب البلاك بلوك هم أحد إفرازات الغضب الموجه وأحد الأشياء السيئة التي تم جلبها من الخارج، وكأننا لانستورد منهم إلا أكثر الأشياء استفزازا وأسوأ الأفكار من طعام القطط والكلاب إلي الأقنعة السوداء ! مانحتاجه هذه الايام أن تظهر الدولة قدرتها علي الضبط والحزم والحسم تجاه مسلسل الفوضي والتخريب الذي يجري، وضبط الفاعلين والمحرضين علي حد سواء وإلا انفلت العيار فمصر لم ولن تكون حقلا لتجارب العنف والتدمير الممنهج والاحتراب ولابد أن تقوي يد القانون لتطال كل من يخرب ويدمر وينشر الفوضي، فقد عاشت مصر وشهدت ثورة بيضاء تخضبت بدماء الشهداء علي أيدي أجهزة قمع النظام القديم وخلال 18 يوما لم تمتد خلالها يد الثوار لتنزع شجرة من مكانها، وما نشهده الآن هو ثورة مضادة بكل ماتعنيه الكلمة يشعلها فلول النظام القديم يتعاونون مع العديد من السياسيين والإعلاميين ويستخدمون الشباب المغرر بهم ويستفيدون من قصور الأداء في أجهزة الدولة التي تعرقل بكل الوسائل ويشكك في قدراتها. ما أود قوله في النهاية أن هناك الكثير من العقلاء من كل الأطراف ولابد أن يظهروا في المشهد كي لا تحترق مصر وأن يقوموا بدورهم، فلن يستفيد أحد مما يجري سوي من لايريدون بنا خيرا، وعلي كل مصري شريف أن يعلن موقفه بكل وضوح تجاه هذا العنف والتخريب وليفتح الجميع قلوبهم وعقولهم والجلوس علي مائدة الحوار لننهي تلك المرحلة المقلقة من تاريخ هذا البلد الطيب بأرضه وشعبه !