زرت البحرين مرة واحدة في حياتي: كان ذلك عام 5891 عندما كنت مرافقا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق، فقد كنا عائدين من جزر المالديف بدعوة من الرئيس مأمون عبدالقيوم، وكانت عودتنا للقاهرة عن طريق البحرين، وما إن علم أميرها آنذاك الشيخ عيسي بن سلمان آل خليفة بقدوم شيخ الأزهر حتي أصدر أوامره باستقباله والوفد المرافق، وكانت الضيافة العربية هناك علي أعلي مستوي من الحفاوة والتكريم وبما عرف عن حاكمها من حب لمصر والمصريين والأزهر كما أنني انبهرت بوداعة شعبها الطيب المسالم، صحيح أن البحرين من أصغر بلدان العالم العربي مساحة، ومن أقلها عددا في السكان، ومع ذلك فهي دولة لها تاريخها، ولها حضارتها، ولمست مدي التطور والنظام والنظافة التي تتمتع به العاصمة »المنامة« والتي تتفوق بها علي كثير من المدن الخليجية التي تزيد عنها في مساحة الأرض وعدد السكان، كان ذلك كما قلت منذ 72 سنة، ولا أدري إذا كانت مازالت تتميز بهذه الوداعة والسمات الآن.. أم لا في عهد الملك حمد بن عيسي آل خليفة؟!.. فلقد تشرفت بمصافحته منذ حوالي عشر سنوات في »جنيف«. بأحد المطاعم المحيطة ببحيرة »ليمان« وكنت أتناول العشاء بمطعم آخر علي مقربة منه، فاتجه عدد من السياح العرب لمصافحته (وكنت واحدا منهم)، والحقيقة فهو ملك شديد التواضع، ابتسامته تعلو وجهه دائما، وشديد الرقي، كما أنه بالغ الأناقة وواضح أنه يختار نوعية ملابسه وألوانها بعناية شديدة، ولذلك كما قرأت عنه أنه أحد »أشيك« عشرة حكام علي مستوي العالم! لقد نجحت البحرين (ذات الأغلبية الشيعية) في تأكيد هويتها العربية، ورفض الأطماع الإيرانية التي حاولت ضمها أثناء حكم شاه إيران السابق وذلك في استفتاء شعبي، وأكد الشعب إرادته في إقامة دولة عربية مستقلة تحت حكم »آل خليفة«، وكانت أول دولة في المنطقة تعلن الحياة النيابية، ولكنها اضطرت في عام 5791 إلي تعطيل الدستور من أجل حماية أمنها في وجه الأطماع الخارجية، وحل المجلس النيابي.. ثم لجأت إلي التشدد في نظام الحكم أمام الأطماع الإيرانية التي لم تنقطع واستمرت تلعب علي الوتر الطائفي: سُنة.. وشيعة، لكن السلطات البحرينية سيطرت علي الموقف تماما والتصدي لكل هذه الأطماع! لكن مع وصول الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي لحكم إيران هدأت الأمور كثيرا بسبب انفتاحه علي جيرانه، واتباع سياسة حكيمة معها، وفي عام 9991 تولي الشيخ حمد بن عيسي آل خليفة حكم البلاد وهو شاب محبوب من شعبه ويحظي باحترام بالغ، فأقدم مع بداية حكمه علي إصلاحات سياسية واسعة، ورغم أنه كان علي رأس الصقور الداعية إلي التشدد في مواجهة مثيري الفتن الطائفية وقت أن كان وليا للعهد في حياة والده »رحمه الله« ومع ذلك فاجأ الجميع بالإعلان عن خطوات إصلاحية لم تشهدها البحرين من قبل، فسمح بعودة كل المبعدين من الخارج، وأفرج عن كل المعتقلين السياسيين، وسمح بمساحة هائلة في الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي، وقدم ميثاقا جديدا للعمل الوطني حاضنا لملامح الاستقرار السياسي والاجتماعي لمستقبل شعبه وفي ظل تحول ديمقراطي غير مسبوق، ومنح المرأة البحرينية دورا متعاظما في المشاركة السياسية، واحتضن قيم التعددية والتعايش بعيدا عن التعصب والطائفية، واهتم بأصحاب الدخول المحدودة لرفع مستوي المعيشة، بل وحمي العمالة الأجنبية الوافدة إلي البحرين بإلغاء نظام الكفيل، وبأن من حق العامل الاحتفاظ بجواز سفره، وحريته في التنقل إلي عمل آخر بدون موافقة صاحب العمل (الكفيل)، وهذا الإنصاف لم يطبق حتي الآن في الدول المجاورة! وتحولت البحرين في عهده من »إمارة« إلي »مملكة« وسمح بإقامة مجلس نيابي منتخب من قبل الشعب، وأقبل علي انفتاح سياسي ديمقراطي ضخم في الخليج، ورغم ذلك فقد أتت الرياح بما لاتشتهي السفن، عندما أطلت الطائفية برأسها من جديد لتهدد استقرار البلاد، وظهرت الجماعات الشيعية المتشددة وشكلت تحالفات خطيرة وغير مسبوقة تستهدف الإطاحة بالنظام الملكي »السُني« الحاكم، واستمرت علي مدي عشر سنوات من تولي الملك حمد الحكم تثير الاضطرابات وتصدر المشاكل ، وتدعو إلي المظاهرات والاحتجاجات بل وأعلنت هذه التحالفات صراحة إلي إسقاط النظام القائم في البحرين وإقامة نظام جمهوري ديمقراطي، ووصل الأمر إلي الدعوة للعصيان المدني والمقاومة! وأمام هذه الضغوط الشيعية المتلاحقة، وطفت علي السطح أزمة الصراع الطائفي، ومع فشل القوي السياسية في البحرين للاتفاق بين الحكومة والمعارضة في التوصل إلي حلول استراتيجية للعديد من المشكلات وخاصة »الانفلات الأمني«، احتمت البحرين بالجارة الحليفة: »المملكة العربية السعودية« من الشيعة وقلاقلهم ومشاكلهم. ودول مجلس التعاون الخليجي لمد يد المساعدة وإرسال قوات دعم، وعلي الرغم من أن المهام المنوطة بهذه القوات تقتصر علي حماية المرافق والمنشآت الحيوية في البحرين، إلا أن البحرين أصبحت الآن بعد مرور سنتين علي دخول قوات درع الجزيرة فوق صفيح ساخن، وأثارت جدلا واسعا مابين مؤيد ومعارض، فالمؤيدون يرون أن التدخل السعودي يستمد شرعيته ليس فقط من طلب الأسرة الحاكمة البحرينية، ولكن لكونه يأتي تحت مظلة اتفاقية الدفاع المشترك لدول التعاون الخليجي التي تتصدرها السعودية وتضم كلا من البحرين والكويت وقطر واليمن والإمارات وسلطنة عمان، أما المعارضون لدخول قوات درع الجزيرة ويتصدرهم بالطبع إيران والشيعة في البحرين فيلبسون الوجود العسكري السعودي ثوب المحتل، ويرون فيه إعلانا للحرب!!!