عندما يحاول الإنسان أن يخرج عن واقعه، ويعيش في ظلال الفن الرفيع أو الأدب الرفيع، أو الثقافة الرفيعة، فإنه قد يبحر نحو الماضي ليلتمس مافيه من تسلية للنفس وترويح عنها، وإثراء للعقل الإنساني، خاصة أن مشاكل النفس الإنسانية واحدة في مختلف العصور، ومن هنا فقد أخذت في قراءة كتاب أعلام الفن القصصي من تأليف هنري توماس دوانالي توماس وترجمة محمد بدران. وقد استوقفني ماكتب عن جيوفاني بوكاشيو (2131 5731) وهو رائد كتابة القصة في العالم، وهو إيطالي، أحب فن القصة فكان رائدها، وقصصه أشبه بصورة مصغرة لمجالي الطبيعة الايطالية في فتنتها وتنوعها غير المحدود، ضحكات فضية، ومروج رزينة الجمال وجداول تستلقي وقد تدافعت فيها الفكاهة، ومنعطفات علي الطريق مفاجئة، واستشراف روائع لم تخطر علي قلب، وزوابع الغيرة الثائرة، وسحب عابرة من الأسي الموقوت، وشمس الأخوة العالمية التي وسع عناقها كل شيء.. هذه هي العناصر التي يبدع منها قصصه. ويقول الكتاب عن قصصه أيضا أنها تصور الحياة في أمانة وصدق. وأروع ماكتب بوكاشيو قصص الديكاميرون، وهي ليست من تأليفه، إنها أشبه بألف ليلة وليلة، لقد صاغها بأسلوبه الجميل، ولونها برؤياه، فجاءت هذه القصص تحفا فنية رائعة، وهي تعبر عن النفس البشرية في لحظات الضعف والقوة.. وفي لحظات السعادة ولحظات التعاسة، كما تعبر عن النفس البشرية بأهوائها وطموحاتها.. ومعظم حكايات الديكاميرون قصيرة، فهي تعد في عرف يومنا هذا من قصار القصص القصيرة، وهو يصور الموقف بقليل من الكلمات ثم يصل إلي نهاية مباغتة. ومن هذه القصص مغامرة الملك في منزل سيدة يحاول إغواءها، وكان الملك يشتهي هذه السيدة، فأرسل بزوجها إلي الحروب الصليبية، ودعا نفسه إلي منزلها لتناول العشاء، وكانت السيدة لا تستطيع عصيان الملك وهي مع ذلك لاتريد الاستجابة لرغباته، فتعد مائدة فاخرة تتكون من عدد من الدجاج وقد اختلف تشكيله وطهيه، فلاحظ الملك إنه لم يقدم إليه غير الدجاج، وأصابه الدهش فقال: سيدتي أليس يوجد في البلاد طعام آخر؟ يوجد يامولاي، ولكن النساء كالدجاج فهن علي اختلاف المظهر سواء في كل مكان. فأدرك الملك ماترمي إليه السيدة وعاد إلي زوجه في هدوء.. وفي هذا الطراز من القصص كان بوكاشيو يغير في المفاجأة بأن يدفع بها إلي مفاجأة أعظم، فيكون الختام مفاجأتين لا واحدة! و.. ما أجمل الإبحار في عالم بوكاشيو.