أكل الدهر وشرب علي فقراء مصر: أجيال وراء أجيال.. لاحلم ولا طموح سوي مأوي تحت سقف لا يسرب بكاء السماء وروث الطيور العابرة.. ولقمة خبز نقية، بلا مسامير ولا نفايات مدسوسة فيها بعناية.. وشربة ماء مكرر ومحرر من الشوائب والبكتيريا والفيروسات ومسببات الفشل الكلوي والبلهارسيا اللعينة.. يريد الفقراء حشمة الفقر.. لا أكثر ولا أقل.. وهم أكثر الناس حمدا لله علي حالهم العسير، لأن بعد العسر يسرا.. وتلك هي قناعتهم القائمة علي إيمان عميق بأن الابتلاء الذي هم فيه، هو اختبار إلهي سينتهي بالفرج في الدنيا أو الآخرة. وفي بدايات التطور السينمائي الوليد بمصر في مطلع القرن العشرين.. قدمت السينما المصرية (الرأسمالية) أفلاما تحض علي حب الفقر، ونبذ الثراء.. كأحد الحلول الماكرة لتسكين آلام المحتاجين وإقناعهم بالرضا والصبر، لأن المال شيطان يحض علي الرذيلة. كان فقراء مصر في ذلك الزمن البعيد حفاة بالمعني الحرفي للكلمة.. وقبل قيام ثورة 23يوليو 1952 ببضعة أعوام، أعلن بعض فاعلي الخير عن مشروع عرف باسم »مشروع مكافحة الحفاء«.. بينما كانت السينما تقدم أفلاما كوميدية رائعة تحبب الشعب في فقرهم المزمن من عينة فيلم »لو كنت غني«، بأبطال محبوبين مثل بشارة واكيم وعبدالفتاح القصري ويحيي شاهين وثريا حلمي.. وهو أحد الأفلام التي مازالت تجدد حضورها الجماهيري كلما عرض علي القنوات الفضائية، ويثير الدهشة لاحتوائه علي رسالة مباشرة للفقراء بالطبع، وهي أن المال قرين الشر.. وأن الفقراء يسيئون استخدام الثروة، ويتلهفون بدافع الحرمان المديد، إلي تحقيق أحلامهم الشيطانية.. وأن من نشأ علي الفقر يجب أن يرضي بنصيبه ويتحلي بالرضا.. ويعيش العوز والحرمان بقناعة وامتنان.. وفي سياق مشابه، قدمت سينما أوائل القرن العشرين فيلما لا يخلو من نفس الرسالة واسمه: »العز بهدلة«.. هكذا كانت السينما تحمي الرأسمالية من أحلام الفقراء والمعدمين في الثراء.. وتكرس في نفوسهم فكرة »القناعة كنز لا يفني«.. وتنسف طموحهم الذي يزاحم ويؤرق الطبقة العليا المتربعة علي عرش الفخفخة والسلطة والمال. وفي سباق الرئاسة الفرنسية الحالي.. رأيت فقرا فرنسيا، مغايرا بالطبع، للفقر المصري القح الكبيس. لا تجرؤ الحكومة هناك ولا مرشحو الرئاسة علي استخدامه للدعاية الانتخابية مثلما يحدث عندنا، ثم تتجاهل أصحابه بعد التمطع علي كرسي الرئاسة.. وكأن الفقر وأهله وسيلة لتحقيق غاية ماكرة للتسيد والحكم.. في شمال مدينة مارسيليا الفرنسية، مساكن شعبية مشيدة بمواصفات آدمية، تتوسطها حدائق للعب الأطفال ونزهة السكان من كل الأعمار.. وما ينقص المنطقة الفقيرة حسب وصف أهلها من ذوي الأصول الأفريقية والجزائرية، هو غياب الأمن ونقص الخدمات.. وطبعا المسألة نسبية.. فالأمن الغائب غياب الموتي أصبح من نصيب أهل مصر كلها.. وأما مظهر فقراء فرنسا ومساكنهم وسياراتهم الرابضة في الأماكن المخصصة للوقوف، فيقترب بل يتجاوز مظهر وحال الطبقة المتوسطة العليا في مصر من العاملين بقطاعات المصارف والبنوك الخاصة (مش أي موظفين).. وبالمقارنة المؤلمة لحال فقراء مصر في الدويقة ومنشية ناصر، والعشوائيات المهلهلة التي قدمها الأديب الشاب أحمد الفخراني بدقة مدهشة ورائعة في روايته الجميلة »فاصل للدهشة«، يكون فقراء فرنسا في نعيم مقيم، ورغد من عيش رهيف!! وأما المرشحون المصريون الأفاضل للرئاسة، فلم نشهد مثول أحدهم بين سكان النجوع والعشوائيات وتقديمه وعودا لانتشالهم من بؤر الفقر المميت.. اللهم إلا وعود الشيخ حازم أبوإسماعيل الذي تفتق ذهنه عن فكرة جهنمية هي تشييد بناء من عدة طوابق يتضمن فقط: مراحيض وحمامات.. لأنه رأي بألمعيته الفكرية وإبداع ذهنه الفريد أنهم »مزنوقين« وهذا هو الحل الفريد لتلك الزنقة.. ولم يقدم السيد حازم أبوإسماعيل أي خطط متكاملة لترحيلهم من عشش البؤس والضنك التي يعيشون فيها مجبرين، ونقلهم إلي مساكن آدمية، لكل أسرة فيها دورة مياه خاصة.. لكن الشيخ حازم اقتبس فكرة المراحيض الجماعية الموسمية في الحج، لأنه مبرمج علي رادار الحجاز.. أما مسألة التنمية الدقيقة فتحتاج لبعد نظر ووعي وخبرة اجتماعية ونفسية واقتصادية وإنسانية.. فليس من الطبيعي ولا المنطقي أن يقوم شعب الشيخ أبوإسماعيل بالهرولة من عششهم المعدمة في »نص الليل« مثلا لقضاء حاجتهم في مبني مجمع مراحيضه الذكية.. إنها الرؤية المحدودة للذين يرفضون الآخر وخبرته والاستفادة من التجارب التنموية للدول المتقدمة (الكافرة ياسيدي).. فالقضاء علي مشاكل الفقراء لن يتم بتخصيص مبني للمراحيض فقط.. ❊ ❊ ❊ من أقوال الناس علي الفيس بوك عندما تجوع البطون.. تتوه العقول.. ويموت المنطق.. احذروا ثورة الجياع الدموية المرتقبة.