يخطف الموت أعز الناس.. يتركنا نعيش في فراغ.. وكأننا في حالة انعدام وزن.. لا تعزينا سوي الذكريات.. والصبر الذي يعطينا القدرة علي التحمل... ولأن الغياب يكون بالجسد بينما تظل الروح تعيش بداخلنا وحولنا.. فإن وحشة الفراق الجسدي وعدم الرؤية والغياب هي التي تؤلمنا والذكري والذكريات هي التي ترد لنا الروح. .. ولعل في كتاب الفنان القدير مدير التصوير السينمائي الذي رفع اسم مصر عاليا في العديد من المحافل الدولية »سعيد شيمي».. وما كتبه عن صديق طفولته بل عمره الراحل القدير »محمد خان» من خلال الخطابات المتبادلة بينهما علي مدي السنين.. مما يجعل »محمد خان» مازال يعيش بيننا بكلماته وذكرياته وحكاياته وتجربة حياته.. ناهيك عن أعماله الفنية التي ستظل علامة في السينما المصرية والعربية.. في هذا الكتاب شديد الثراء الذي يذكرني برسائل »فيكتور هوجو» إلي ابنته.. في هذه الرسائل المرسلة من »محمد خان» إلي »سعيد شيمي» إنما تعكس تجربته في الحياة وإصراره علي النجاح ومشواره الفني الصعب الذي بدأه من الصفر ومدي حبه وعشقه للفن الذي جعله فيما بعد واحدا من ألمع مخرجي السينما العربية والمصرية.. الجهد الكبير المبذول في الكتاب يجعلنا نعيش ليس حالة الصداقة والأخوة التي جمعت بين »سعيد» و»خان» وأسرتيهما.. بل هذه الرسائل من »خان» »لسعيد» تعدُّ سيرة ذاتية صادقة »لخان» عن طفولته ثم شبابه.. هذه الخطابات التي حرص »سعيد شيمي» هذا الصديق الوفي المخلص علي الاحتفاظ بها .. وكأنها أرشيف لحياة »خان» الذي كان يحلم بأن يراها منشورة.. فحقق له »سعيد» ما كان يتمناه بعد رحيله.. وفي تقديمة لا تتعدي ثلاث أو أربع كلمات كتب سعيد فيها إهداءه »سحبت روحي معك» فقد كان حزنه علي صديقه كبيرا لكنه استطاع أن يعيده إلينا حيا من خلال الخطابات علي مر السنين والتي كلها تحمل معني واحدا لهدف كان »خان» يسعي لتحقيقه وهو عمله بالسينما. • في أحد الخطابات وبعد سفره مع عائلته إلي لندن كتب لسعيد »ياعزيزي إنني في مرحلة مهمة جدا في حياتي.. وهي المرحلة التي أصمم فيها اختيار مستقبلي ولكن هناك عام آخر حتي أستطيع أن آخذ شهادة التعليم الإنجليزية، ثم إن شاء الله العام القادم سألتحق بمدرسة »لندن للفن السينمائي» حيث سأدرس الإخراج لمدة ثلاثة أعوام والتصوير أيضا.. ثم لو كان الله معي لعلي أترقي إلي مساعد مخرج 2، ثم رقم 1 ثم مخرج منفرد وهذا هو أملي.. ولو كنت ناجحا في إخراج بعض أفلام إنجليزية هناك أمل كبير جدا هو أمريكا. وصدقني إن كفاحي هذا الذي سأبدأه العام القادم سيستمر لمدة سبع أو عشر سنوات إلي أن أصل إلي ما أريد.. فأنا أريد أن أكون »أعبر عن مشاعري بإخراجي الذي سيحرك الكاميرا بطريقة تؤثر علي القلوب والذي سيحرك الوجوه بطريقة تجذب العيون.. أريد أن أعبر عن رأيي في إخراجي.. وربما ولم لا.. في يوم من الأيام أخرج فيلما مصريا.. ربما.. يارب». وفي خطاب آخر كتب قائلا له »إن حبي للسينما وللفن السينمائي ليس للمال فقط.. فهناك شيء بيني وبين الأفلام.. إنها ليست هواية بل حب.. وأنت تعرف من صغري أنا مجنون سينما».
وتتوالي رسائل »خان» بثرائها الإنساني والفني من لندن وبعدها بيروت حيث كان حريصا كل الحرص علي أن ينقل وقائع الحياة التي يعيشها .. بالإضافة إلي الكم الهائل من الأفلام التي يراها وخاصة الأوروبية ومدي تأثره بها وحلمه الذي لن ولم يحد عنه وظل يطارده حتي أصبح حقيقة وهو أن يكون مخرجا كبيرا يحمل بداخله تواضعا أكبر وهو ما شاركه فيه صديق طفولته وصباه وشبابه »سعيد شيمي».. هذه الصداقة النادرة التي جعلت منهما توأما واحدا.. فكانت الرسائل درسا في الحياة.. وإعادة الروح لمن افتقدناه.. وإن رحل جسده ولم يزل بيننا بروحه.