التقلبات الجوية والتغيرات المناخية التي عصفت بمصر في الأيام الأخيرة جعلت المواطن يشعر بطقوس الفصول الأربعة كلها في وقت واحد، وليست مصر هي الدولة الوحيدة التي تعاني من تلك التقلبات فالعالم كله بات علي صفيح ساخن سواء بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري وانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بشكل مريع أو الاستهلاك المستمر للطاقة وعدم استبدالها بالطاقة النظيفة. ذلك الأمر كان السبب الرئيسي لانتفاضة العالم لعقد قمة باريس للمناخ منذ عامين والتي حضرها الرئيس السيسي وتم توقيع اتفاقية دولية تلزم الدول الموقعة علي اتخاذ إجراءات للحد من استهلاك الطاقة والاستثمار في الطاقات البديلة وإعادة تشجير الغابات، والسعي لوضع آلية مراجعة كل 5 سنوات للتعهدات الوطنية. والملاحظ في مصر أن تلك التغيرات تجلت آثارها خاصة في قطاع الزراعة سواء من حيث قلة إنتاجية محاصيل بعينها كالمانجو الذي صرح وكيل وزارة الزراعة بالإسماعيلية المدينة الأشهر في زراعتها أنه من المتوقع انخفاض المحصول بسبب الاضطرابات الجوية التي أدت إلي تساقط الثمار، كما أن موجة الحر الشديدة التي تجلت في فترة التزهير قضت علي معظم الأشجار وأصابتها بمرض الهباب العفن ذلك المرض الأخطر علي الإطلاق، والذي لم يتوصل الخبراء الزراعيين إلي علاج للقضاء عليه إلي الآن. ولم تكن المانجو وحدها فالطماطم تأثرت أيضاً حيث إنها محصول حساس لدرجة الحرارة المرتفعة مما قصر زراعتها في مناطق بعينها وانخفضت رقعتها بحسب تقارير سابقة صادرة من وزارة الزراعة. مركز البحوث الزراعية تنبه إلي أن تغير المناخ بمصر سيؤدي لتخفيض الغلال الزراعية لمعظم المحاصيل، ومنها القمح المتوقع انخفاض إنتاجه بنسية تصل ل9٪ بحلول 2030 وبنحو 20٪ في 2060. ظاهرة التصحر وتناقص الفدادين الزراعية ستتجلي الأعوام القادمة مما يضعنا في أزمة غذائية قد تصل إلي الجفاف كما حدث في عدة دول أفريقية كالصومال والسودان وحتي المكسيك. أما قطاع الحيوان فقد أصيب الكثير من الثروة الحيوانية بمحافظات عدة بمرض الجلد العقدي الناجم عن انتشار الباعوض والناموس بفعل التقلبات الجوية ودرجة الحرارة العالية فضلاً عن تناقص الثروة السمكية التي تنتجها المزارع حيث إن الصقيع أو الحرارة يؤديان الي نفوق أطنان كبيرة والحل يكمن في الإقبال علي التكييفات المائية أو أحواض التسخين ومن المعروف أن الكثير من المزارع لا تلتزم بذلك مما يؤدي لخسائر رهيبة ناهيك عن الأضرار علي البشر من الإصابة بالأمراض الجلدية المختلفة وأنواع الحمي المختلفة. الأهم أن العواصف الترابية والرياح الباردة كان يتم مواجهتها بزراعة مئات أشجار الكافور بالقاهرة حيث إن تلك الأشجار دائمة الخضرة ومعمرة تعيش مئات السنوات كما أنه يتم الاستفادة من أخشابها وزيتها في علاج آلام المفاصل والالتهابات وقد أدخل محمد علي باشا زراعته بمصر علي ضفاف الترع والمصارف إلا أنه في السنوات الأخيرة تم قطع نسبة كبيرة من الأشجار مما جعل الرياح تزداد والأتربة التي تسبب للكثيرين تهيجا وحساسية مزمنة. "آخر ساعة" استعرضت تأثير التقلبات المناخية علي الثروة الزراعية وكيفية مواجهتها إضافة إلي التأثير علي التنوع البيئي والثروة الحيوانية. الكثير من الدراسات سواء الدولية أو المحلية التي درست الآثار الناجمة من التغير البيئي وكيفية مواجهتها كان أهمها دراسة الدكتور أيمن أبو حديد وزير الزراعة الأسبق الذي توصل إلي أن المحاصيل المصرية ذات حساسية عالية للتغيرات المناخية حيث تتواجد في بيئة قاحلة وهشة تعتمد أساساً علي مياه نهر النيل، وسوف تؤثر الزيادة المتوقعة في درجات الحرارة وتغير نمطها الموسمي إلي نقص الإنتاجية الزراعية لبعض المحاصيل والحيوانات المزرعية، وحدوث تأثيرات سلبية علي المناطق الزراعية الهامشية وزيادة معدلات التصحر، كما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلي زيادة البخر وزيادة استهلاك المياه، وحدوث تأثيرات اجتماعية واقتصادية كهجرة العمالة من المناطق الهامشية والساحلية فضلا عن زيادة مستويات نهر النيل مما يؤدي لغرق بعض المناطق. واقترحت الدراسة استنباط أصناف جديدة وسلالات تتحمل الحرارة العالية والجفاف وملوحة التربة وأصناف تستطيع مقاومة نقصان المياه إضافة إلي تغيير مواعيد الزراعة بما يلائم الظروف الجوية الجديدة والري في المواعيد المناسبة وبالكميات أيضاً الملائمة. ولم تكن تلك الدراسة الوحيدة ففي دراسة قام بها مركز بحوث الصحراء لقياس آثار تغير المناخ في مصر في عام 2050 فإن للعواصف وموجات الحر والفيضانات تأثيراً مدمراً علي مصر، ويؤكد التقرير أنه إذا لم تتخذ أي إجراءات فإن التغير المناخي سيقلل من الناتج المحلي الإجمالي لمصر بنسبة تصل إلي 10٪ في عام 2050. ويحظي المشروع بدعم الاتحاد الأوروبي. وحول تأثيرات تغير المناخ علي المحاصيل الزراعية يقول الدكتور مصطفي قاعود رئيس قسم البساتين بكلية الزراعة جامعة قناه السويس: لا شك أن التغيرات المناخية تعمل علي تغيير الخصائص البيولوجية لبعض المحاصيل الزراعية حيث إن انخفاض درجة الحرارة يعمل علي قتل حيوية حبوب اللقاح وبالتالي فشل العقد مما يؤدي لانخفاض إنتاجية الفدان وقد يؤدي الي حرق المحصول ككل أما ارتفاع درجة الحرارة فمن الممكن أن يعمل علي حرق الأوراق وإصابة السيقان والزهر بأمراض غريبة ولعل ذاك ما حدث في محصول المانجو ذاك العام والذي أصيب بمرض الهباب العفن الغريب الأطوار مما أدي لانخفاض إنتاجية الفدان كذلك الرياح المحملة بالأتربة والتي تعيق وصول الغذاء إلي الأوراق مما يؤدي لموتها ويضيف قاعود: ومن أهم المحاصيل التي تأثرت قصب السكر وعباد الشمس والقمح والذرة الشامية والتي من المتوقع أن تقل إنتاجيتها بنسبة 19٪ في منتصف القرن كما سيزيد استهلاكها بنسبة 8٪ كما أن ارتفاع سطح البحر ونحر الشواطئ سيزيد من ملوحة التربة مما سيصيب الزراعات بالتلف خاصة في مدن كفر الشيخ والبحيرة. ويختتم حديثه بوضع بعض الحلول لتفادي تلك الأزمة: حيث إنه من المهم الاهتمام بالري خاصة في حال حدوث موجات الصقيع وفي حال ارتفاع درجات الحرارة لابد من زيادة عدد مرات الري مع تقليل كميات المياه مع تزويده بالمركبات الكيميائية التي تساهم في التزهير بشكل طبيعي دون فاقد فضلاً عن الأحماض الأمينية التي تساهم في مقاومة العطش وجفاف التربة والأهم زراعة مصدات الرياح عند البدء في زراعة البساتين حيث إنها تعمل علي مقاومة الآفات وتلافي أضرار البرودة الشديدة والصقيع. ويتفق معه في القول الدكتور أحمد أنور الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق فقال: تعد لتلك التغيرات نتائج سلبية خاصة فيما يعرف بظاهرة التصحر مما يؤدي لتناقص الرقعة الزراعية بل الأخطر أن تتعرض مصر بحلول عام 2050 لموجات جفاف كما حدث بالقرن الأفريقي فضلاً عن احتمالية غرق بعض مدن الدلتا نظراً لارتفاع منسوب ماء نهر النيل كذا غرق الشواطئ خاصة شاطئ البحر الأحمر نظراً لطبيعته الخاصة وموقعه الجغرافي الهام وشعبه المرجانية العديدة وزيادة ملوحة التربة مشيراً إلي أنه من المتوقع انقراض بعض الحيوانات بسبب التغير البيولوجي كالسلحفاة البحرية وطائر البفن. ويضيف لذا لابد من تغيير السياسات الزراعية الحالية والإسراع في معدل نمو المنتجات الزراعية من خلال مضاعفة الاستثمارات الزراعية والإنفاق علي البحوث الزراعية خاصة البحوث المتعلقة بتطوير الأصناف المقاومة للملوحة والحرارة العالية والموفرة للماء وعلي رأسها الكينوا البديل للقمح حيث يحتوي علي نسب عالية من البروتين ويقاوم جفاف التربة وينمو في التربة الرملية أيضاً ولا يستهلك كميات كبيرة من الماء. وحول تأثيرها علي الاقتصاد الزراعي يقول الدكتور سرحان سمير الباحث في الشأن الزراعي والأستاذ بمعهد الاقتصاد الزراعي وصاحب دراسة حول التغير المناخي وأثره علي التنمية المستدامة: تؤدي التغيرات الجوية إلي خسائر اقتصادية كبيرة تتمثل في نقص عدد من الفدادين الزراعية بفعل التصحر حيث إن من أبرز مظاهر التغيرات خفض الانبعاثات والاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض مما يهدد الدلتاوات سواء بمصر أو العالم كله كما أنها سوف تقود إلي ارتفاع أسعار الغذاء علي مستوي العالم وبالتالي زيادة فاتورة الغذاء بمصر مما سوف يضغط علي الموازنة العامة للدولة ولعل الموجة الحارة الشديدة التي تعرضت لها البلاد ما بين عامي "2010 إلي 2015 خير دليل فقد تضررت الكثير من الزراعات بمدن الدلتا ونفق الكثير من الماشية مما أثّر بالسلب علي الاقتصاد ومن المتوقع أن تزداد الأمور صعوبة بحلول 2030 حيث من المتوقع انخفاض متوسط نصيب الفرد من المواد الأرضية الزراعية إلي 3.7٪ مقارنة بالأعوام الماضية لذا لابد من التوصل إلي سياسات لمواجهة ذلك الخطر بمحاصيل تتحمل الحرارة ونقص الماء. أما الدكتورة سميرة البيطار أستاذ التخطيط العمراني، فتري أن الآثار السلبية التي ستخلفها تلك التغيرات تتمثل في تآكل الشواطئ واحتمالية غرق بعض أجزاء من الدلتا وابيضاض الشعاب المرجانية الموجودة بالبحر الأحمر كما أن إمدادات المياه العذبة من الجنوب إلي الشمال سوف تقل نتيجةَ الجفاف الذي سيعتري دول منابع النيل بسبب ارتفاع درجة الحرارة، أما مياه البحر الأبيض المتوسط فسوف تغزو الجزء الشمالي من دلتا نهر النيل وتتجه نحو جنوب الدلتا بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر مما يؤدي إلي زيادة معدلات التبخر وقلة حصة مصر من مياه النيل فضلاً علي أن ظاهرة الاحتباس الحراري تعمل علي زيادة التبخير ولابد لمصر أن تسترشد بتجربة هولندا لحماية المناطق الواطئة حتي لا تحدث كارثة الأعوام المقبلة.