الحروب مستمرة وتظل الطاقة، وفي مقدمتها الغاز والنفط، وقوداً ودافعاً للعنف والدماء.. ليس هناك أكثر من الطاقة قدرة علي إثارة الصراعات بين الدول في القرن ال21، نظراً لدورها الحيوي في الاقتصاد العالمي، وتحولها إلي مصدر قوة ونفوذ استراتيجي لبعض الدول، وإضعاف اقتصادي لبعض الدول الأخري.. فهي السلاح المؤثر في رسم ملامح نظام إقليمي جديد، كما تظهر في بلورة التوازنات بين الدول الكبري والدول الصاعدة؛ فالعالم يتجه نحو سباق محموم علي الطاقة. عندما توجه المسؤولون الألمان إلي قمة الناتو في بروكسل الأسبوع الماضي، كانوا علي أتم الاستعداد لما اعتبروه هجوماً لا مفر منه من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بسبب انخفاض الإنفاق العسكري. ولكن في صباح القمة استهدف ترامب الألمان لسبب مختلف تماماً عن المنتظر: خط أنابيب الغاز البالغ طوله 800 ميل، تحت بحر البلطيق. وتتابع الحكومة الألمانية مشروع "نورد ستريم 2" منذ سنوات، علي الرغم من الانتقادات التي وجهتها الولاياتالمتحدة وبعض دول أوروبا الشرقية. وجدد ترامب الانتقادات الأمريكية القديمة للمشروع، وتضاعفت من خلال ربطها بمستقبل حلف شمال الأطلسي "الناتو". وقال الرئيس الأمريكي لأمين عام حلف شمال الأطلسي، "ينس ستولتنبرج" في بروكسل، إن ألمانيا تحصل علي حماية أمريكية من الروس، وفي الوقت الذي تبرم فيه صفقات متعلقة بالطاقة مع روسيا. وذكر ترامب أن ألمانيا تحصل علي 60٪ من طاقتها من روسيا، وسيضاعف كمية الغاز الطبيعي من خط أنابيب "نورد ستريم2" الذي ترسله روسيا إلي ألمانيا، ويمر عبر دول مثل أوكرانيا. وتبدي الولاياتالمتحدة ودول أوروبية معارضة للمشروع الألماني مع روسيا، وأضاف ترامب متحدثاً عن سياسة برلين قائلاً: من المفترض أن نحميكم من روسيا، ومع ذلك أبرمتم هذه الصفقة مع روسيا. وتشكلت ملامح الصراع منذ عام 1995 حين رسم الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" استراتيجية شركة "غاز بروم" لتتحرك في نطاق وجود الغاز من روسيا، فأذربيجان، ثم تركمانستان، وإيران وصولاً إلي منطقة الشرق الأوسط، وكان من المؤكد أن مشروع "نورد ستريم" رسم عودة الدب الروسي إلي المسرح العالمي، ومن أجل إحكام السيطرة علي الاقتصاد الأوروبي الذي سيعتمد لعقود علي الغاز كبديل للنفط أو بالتوازي معه ولكن بأولوية أكبر لصالح الروس. ومن ثم سارعت واشنطن بتصميم مشروعها الموازي "نابوكو"، لينافس المشروع الروسي ويتقاسم معه الطاقة علي أساسها سيتعين القرن المقبل سياسياً واستراتيجياً. بدأت المبادرة عام 2002، حيث شرع الاتحاد الأوروبي بجدية في دراسة خيارات مد أنبوب لنقل الغاز من منابعه في آسيا الوسطي والقوقاز باتجاه الأسواق الأوروبية، بعيداً عن الأراضي الروسية، وسرعان ما حظي مشروع "نابوكو" بتأييد من بروكسل، في وقت يتناقص فيه إنتاج أوروبا المحلي وتتزايد فيه توقعات طلب القارة علي الغاز. وخلال عام 2011 واستكمالاً للهيمنة الروسية، بدأت موسكو في ضخ الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب "نورد ستريم2" إلي القارة العجوز عبر بحر البلطيق. حيث يتم ضخ الغاز إلي تشيكيا وسلوفاكيا في مسار هذا الخط علي مراحل عبر ألمانيا بدلاً من أوكرانيا، ويتكون هذا الخط من فرعين، طاقة كل منهما 27.5 مليار متر مكعب في العام، أما الطاقة الإجمالية، فتبلغ 55 مليار متر مكعب. فيما بلغت التكاليف الإجمالية لإنشائه نحو 8٫3 مليار دولار. ويبدأ هذا الخط من بلدة "فيبورج" شمال غربي روسيا، وينتهي في ألمانيا بالقرب من بلدة "جرافسفالد"، ويعتبر خطاً استراتيجياً للغاز الروسي، فهو بمثابة علامة علي وجود توسع في شراكة بمجال الطاقة بين برلينوموسكو، وهذا يبقي روسيا في المباراة الأوروبية بطريقة قوية، كما يعطي لهم صوتاً في بروكسل عبر ألمانيا. ووفقاً للتقرير الذي أعده مراسل صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية المعني بالشؤون الخارجية وقضايا الأمن الأوروبية والدولية "ريك نواك"، تعتبر ألمانيا أكبر سوق للغاز الروسي في أوروبا، ومع اكتمال المشروع سيضاعف من الصادرات الروسية إلي أوروبا. ففي عام 2016، زودت روسيا ما لا يقل عن 247 مليار متر مكعب من الغاز إلي القارة العجوز. وخلال العقود القليلة القادمة، من المتوقع أن تختفي موارد أوروبا من الغاز تدريجياً؛ بريطانيا والنرويج وهولندا هي أكبر منتجي الغرب وأوروبا الشمالية، معتمدين بشكل أساسي علي حقول الغاز في بحر الشمال. ومع نفاد إمدادات أوروبا، تأمل الولاياتالمتحدة في الوصول إلي أسواق القارة وتحقيق مكاسب مع تزايد الطلب. من المتوقع أن يرتفع الطلب الأوروبي من 500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2018 إلي أكثر من 550 مليارا بحلول عام 2030. لكن المصالح الاقتصادية الأمريكية توضح سبب ظهور خط الأنابيب "نورد ستريم2" كنقطة خلاف رئيسية. كما تخشي دول مثل بولندا وأوكرانيا من أن تقوم روسيا بتنويع مسارات الغاز الخاصة بها إلي أوروبا لتكون قادرة علي استغلال شبكتها لأسباب سياسية. في يونيو 2014، وسط تداعيات ضم الروس لشبه جزيرة القرم، قطعت روسيا إمدادات الغاز لأوكرانيا لمدة أسابيع، فيما وصفته "كييف" بأنها محاولة لابتزاز النظام الأوكراني. وحينها ساعد الضغط الأوروبي علي موسكو في حل النزاع، حيث ازداد قلق الدول الكبري الأعضاء في أوروبا الغربية من أن قطع الإمدادات قد يكون له تأثير سيئ علي القارة. ولم تبد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أي استعداد لوقف مشروع خط الأنابيب المثير للجدل، ولكن في بعض الأحيان أشارت إلي هذا المشروع مهماً ليس فقط للجانب الاقتصادي ولكن لأهميته السياسية أيضاً. وأوضح نواك أن إمدادات الغاز التي تثير الآن المخاوف بشأن المخاطر التي قد تشكلها علي الأمن الدولي، فقد كان ينظر إليها سابقاً علي أنها وسيلة لمنع الصراعات أثناء الحرب الباردة. ويقول المؤرخ الألماني "فرانك بوش"، الذي قام بتحليل سجلات حكومة ألمانياالغربية: "لقد أصبحت الدبلوماسية في مجال الطاقة حلقة مبنية بعناية تضمن التعاون حتي أثناء الأزمات السياسية؛ وأن خطوط أنابيب الغاز ضمنت الثقة المتبادلة والعلاقة المستقرة بين الدول، مما أدي إلي مزيد من التعاون، خاصة في مجال الطاقة النووية". وربما ساعد إرث ألمانيا في الحرب الباردة في تفسير سبب قوة برلين في جعل نفسها أكثر اعتماداً علي دولة ضمت أراضي أجنبية وقطعت إمدادات الطاقة في الماضي. ومع ذلك، فإن مشروع نورد ستريم 2 لم يكن له سوي تأثير حقيقي واحد حتي الآن: وهو إثارة أزمة بين ألمانيا والدول الغربية الأخري. ورداً علي اتهامات ترامب بأن ألمانيا أسيرة لروسيا، انتقدت ميركل الرئيس الأمريكي بشدة، وأكدت أن ألمانيا يمكن أن تنتهج سياسة مستقلة الآن. ويبدو أن الحرب الباردة التي تدور رحاها منذ سنوات بين روسياوالولاياتالمتحدة أخذت شكلاً جديداً مع تحالف الأخيرة مع القارة العجوز ضد روسيا من خلال دعم إنشاء خط "نابوكو"، لكسر هيمنة الدب الروسي علي سوق الغاز في أوروبا.