كل شيء يتكرر يفقد دهشته.. إلا الموت! فجأة سيتوقف قلب الأستاذ، لنفاجأ برحيله.. وحين يختفي من الحياة، نقرر البحث عنه في كل أمكنته، هنا كان يجلس، علي هذه الطاولة يكتب، وتلك أوراقه التي تنسكب عليها أفكاره.. قلمه الذي يشكو الآن وحدة مطلقة، وروحه الطليقة التي تحلق فوق مشاعر تهفو إليه.. مات أنيس منصور! يكدرنا الخبر السيئ، يضاعف مرارة قهوة الصباح، تطرق الألسنة صامتة.. ما تلبث أن تدعو للفقيد بالرحمة.. وتبدأ الثرثرة حول حكيم قرر التوقف عن الكلام!.. "أحمد الله أنه ليس لي بنت ولا ولد حتي لا يعانون بعد وفاتي".. إنها الجملة الأخيرة لصاحب ال"مواقف".. الرجل الذي مات منذ أيام وهو لا يدري أنه أنجب حياة! يرغمك أنيس منصور علي قراءته، فالفيلسوف الذي اختبرته الصحافة، قدم لها نفسه علي أنه أديب يكتب الرواية في سطر، يؤنسك بما يبدع ويدهشك علي الدوام.. الدوام لله.. مات أنيس منصور ولا راد لقضاء الله.. .. ومن قبله توفيق الحكيم، كان أنيس منصور يكثر من استخدام علامة التعجب في كتاباته.. وكأنها حرف أبجدي أصيل - ربما يقول لك أحد الباحثين فيما بعد - إن تنصيب تلك العلامة في نهاية الجمل دليل علي استمرار القلق داخل أشخاص تتغذي أجسادهم علي الأرق. ويضيف: يفعل الحكماء ذلك حين يريدون أن يخبروك بشيء لا يمكن كتابته ومن ثم كانت الإشارة إليه بتلك العلامة إثباتا إلي أن هذا الشيء غير مرئي مع ذلك فهو موجود............ بداخلك. يا سيدي: رحيلك الكارثي؛ علامة تعجب، تقودنا إليك بداخلنا، لنتحايل علي موت لا يشفق علي من لا يتحايل عليه. "لست أدري متي أعود إلي الغوص من جديد في أعماقي.. لا أعرف لماذا كان ما كان.. ولماذا لم أكمل ما بدأت، ولماذا أشعر بأن الذي أكملته ليس إلا مرحلة.. وليس نهائيًّا.. فلا شيء نهائيًّا.. وحتي بعد الموت.. فنحن نستأنف الحياة بصورة أخري".. هكذا يرثي الكاتب الكبير نفسه، في مقال نشره قبل وفاته في صحيفة "الشرق الأوسط".. فهل أودع أنيس منصور سره في أحد تلاميذه.. هل كان هذا التلميذ يلازمه.. يتابعه مثلا.. أم أنه واحد من ملايين القراء الذي سيأتي اليوم ليقول لنا إنه الوريث الذي قرر أن ينهي وحدة القلم، وينهي مرحلة الصمت لنبدأ التلاوة من جديد علي نهج المشروع الفكري القديم.. ❊❊❊ يعلمك أنيس منصور شيئا مهما، أن تقرأ ما يمتعك، حتي تمتع من تكتب له، ورث كاتبنا النصيحة من والده في القرية التي نشأ فيها بالقرب من مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، وإذا كان للريف تأثير علي شخصيته الثرية، فإننا لا ندري لماذا أقصي الأستاذ الفقراء من كتاباته، وبالتأكيد إننا لا نستطيع أن نسأله الآن لماذا اتخذ منهم هذا الموقف المتجاهل لحالهم؟ مات الرجل الذي كان معجبا بحياة الغجر، بعد أن حطم كل المسلمات الغبية المتوارثة بفكر طموح جعله يبدأ بناء مسلمات جديدة بنفس مواد الهدم فيصنع نموذجا مختلفا ومخالفا لما سبق ترديده.. إنها عادته.. أكسبها له قدرته علي التأمل والتحليق بالخيال فوق الواقع ليتمكن من رؤيته بعيدا عن الذاتية التي تجعلك شريكا في الخطأ.. حفظ القرآن الكريم لأنيس منصور لغة سليمة.. فقد حفظ أنيس القرآن في سن صغيرة في كُتّاب القرية الذي خرج منه بحكايات عديدة سرد بعضها في كتابه "عاشوا في حياتي"، بينما التنبؤ له بأنه سيكون من العظماء، كان منطقيا بوصفه يمتاز منذ سنواته الأولي بالنباهة والتفوق، ففي دراسته الثانوية كان الأول علي كل طلبة مصر . التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة برغبته الشخصية، دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل علي ليسانس آداب عام 1947وعمل سعيداً في القسم ذاته، لكن في جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحفي في مؤسسة أخبار اليوم التي رأس فيها تحرير عروس إصداراتها "آخر ساعة". وكان من الطبيعي أن يحس المفكر بأنه منعزل تماما عن الدنيا في فترة حياته الجامعية، ولا يهتم إلا بشراء الكتب ودراسة الفلسفة بنهم شديد حتي حدث له تغيير كبير وهو ذهابه إلي صالون العقاد وانفتاحه علي دنيا لم يعرف لها وجودا من قبل، وسجل كل ذلك في كتاب "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، ويمكنك في هذا الكتاب أن تطلع علي قلقه وخوفه وآرائه في مواجهة جيل العمالقة أمثال: طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، سلامة موسي، والرافعي وغيرهم الكثير من أعلام الفكر والثقافة في مصر في ذلك الوقت. تحول قلم الكاتب الكبير في أوقات كثيرة ليكون ظلا للسلطة ومما يذكر لأنيس منصوره أنه كتب في العدد الأول من مجلة "الوادي" التي رأس تحريرها مادحا الرئيس السوداني النميري، حتي إذا أطاح عبد الرحمن سوار الذهب بالنميري، يهنئ أنيس منصور في ثاني أعداد الوادي الشعب السوداني بثورته وهو يندد بالنميري. وهكذا لم يستطع أن يظل وفيا لعبد الناصر فانقلب عليه وعلي ثورته وراح يحصي له من العيوب والاتهامات في الوقت الذي يظهر فيه من الود والتأييد للسادات ما يجعله أفضل من حكم البلاد. وظل يروي حكاياته مع السادات في عموده في "الأهرام" طوال الوقت، لكن ربما كان قربه من السادات، ولعل هذا القرب هو ما جعله يدافع عن اتفاقية "كامب ديفيد" ويتهم بأنه أحد كبار الكُتاب المؤيدين للتطبيع مع إسرائيل. ويذكر أنه من الذين سافروا مع الرئيس السادات إلي الكيان العبري لتوقيع تلك المعاهدة.. أما مبارك فقد آثر صاحبنا السكوت عن سياسته. بينما وصف أنيس منصور ثورة 25 يناير بأنها ستكون شرارة انطلاق ثورات باقي الدول العربية؛ متنبئا بأن العالم العربي بعد ثورة الشباب المصري سيشهد انقلابات كبيرة علي الحُكام خاصة هؤلاء الذين اشتهروا بغرورهم وثقتهم العمياء في سيطرتهم الكاملة علي شعوبهم. ❊❊❊ أتقن أنيس منصور لغات عديدة منها: العربية والإنجليزية والألمانية والإيطالية. مما مكنه من الترجمة لكثير من الكتب، وكتب في فترة من الفترات في ماوراء الطبيعة ، ومن أشهر كتبه في هذا المجال: "الذين هبطوا من السماء" و"الذين عادوا إلي السماء" و"لعنة الفراعنة." عرف أنيس منصور بأن له عادات خاصة، فهو يقوم ليكتب في الرابعة صباحاً ولايكتب نهارا، ومن عاداته أيضا أن يكون حافي القدمين ومرتديا البيجاما وهو يكتب. ❊❊❊ "ما الذي خرجت به من هذه الدنيا؟!.. صحيح ما الذي يمكن أن يخرج به الإنسان من هذه الدنيا... والجواب: لا شيء.. لأنك إذا قلت أنك (خرجت) من هذه الدنيا بشيء فأنت لا تعرف ماذا تقول.. لأنه لا أحد يخرج منها بشيء.. فالذي يموت لا يترك شيئا لأحد.. لأنه بعد وفاة الإنسان لا أحد.. فكل الناس بعده لا شيء أيضا. وإنما الذي يحدث هو أن الإنسان كما دخل الدنيا سوف يخرج منها.. كان وزنه ستة أرطال وسوف يخرج منها ووزنه ستون رطلا.. دخلها سليما وخرج منها مريضا.. أو تقول لنفسك: كل هذا التعب والعذاب في الدنيا والنتيجة ماذا ؟ لا شيء" إنه أنيس منصور يحدثنا عن الحياة قبل رحيله منها .. فهل بلّغ.. اللهم فاشهد.