المصريون يختلفون علي كل شيء ويتفقون علي كراهية إسرائيل صعود الشحات علي العمارة منع الكارثة وحجازي يختتم الحدث لو أنك كنت هناك صباح الأحد الماضي، ونظرت إلي ساعتك، فستلاحظ أن عقاربها تشير إلي الثانية، من موقعك أمام (عمارة) السفارة ستتمكن من مشاهدة شيء يزحف علي الحائط وهو في اتجاهه لأعلي، دقق النظر، ستكتشف أنه علم مصر! تفكرك عينك لتتأكد أن ما تشاهده لم يكن خيالا، فيصيح من بجانبك وهو يشير في اتجاه العلم: هناك من يصعد. نفس الجملة سيكررها وينفيها أشخاص من حولك، بينما الظلام الذي يكسو واجهة العمارة لا يؤكد الحقيقة أو يستطيع تكذيبها.. يصل الشاب إلي الهدف فيراه كل منكم علي هيئة عملاق، رغم نحولته و بعده عن الأرض بمسافة لا تقل عن ستين مترا تقريبا. حين يقوم بإنزال علم الصهاينة، ستتأكد أن الأمر لم يكن حلما، وما أن يضع بدلا منه علم مصر حتي "تخضك" الفرحة وترقص علي دقات قلبك، بينما ظهور البطل بعد نجاح مهمته يعني تعرضه لقصف متواصل من القبلات سيشعر بعدها بالاختناق، فيتم تسليمه إلي سيارة الإسعاف، قبل أن يتلقفه الدكتور صفوت حجازي من بين المتظاهرين ويغادر به الميدان! إنزال العلم كان هو المطلب الشعبي الأول الذي ظل الآلاف يهتفون به لمدة يومين متواصلين ، وحاولوا بشتي الطرق إنزال علم الكيان الصهيوني الذي كان يبدو وهو يرفرف أشبه بثعبان سام يتلوي ويزحف لقرص الحشود الواقفة أسفل العمارة، وعلي كوبري الجامعة.. محاولات اصطياد العلم بالصواريخ النارية كانت الفكرة الوحيدة التي لم يجد المتظاهرون غيرها فظلوا يقذفونه علي أمل أن تشتعل فيه النيران، وكلما اقترب "الصاروخ" منه يهتف المصريون: هيولع هيولع. كان من الواضح أن علم إسرائيل لا يتم انتزاعه بألعاب صبيانية وبحاجة إلي مغامرة بطولية وجادة تبحث عن شخص مؤهل للقيام بها فكان أحمد الشحات الذي أسعد مصر كلها. ❊❊❊ محاولات إنزال العلم اتخذت أيضا شكلا من المفاوضات بين المتظاهرين وضباط الأمن المركزي في عصر نفس اليوم الأحد، أحد البسطاء يحاول إقناع ضابط الأمن المركزي الواقف أمام بوابة العمارة بالسماح له بالصعود ليقوم بالمهمة، عدم موافقة الضابط تثير الرجل فيقترب منه ويقول له: انت معانا ولا معاهم؟! معاكم طبعا.. ينطق بها الضابط الصغير حتي ينفي عن نفسه تهمة ليس هناك أقسي منها.. بينما يتوجه الرجل بحديثه إلي من بجانبه: مهو إحنا لازم نطرد السفير ونرمي له عزاله في الشارع! "سنقوم بإنزال العلم بعد المغرب"وعد كاذب من الضابط يلقي به إلي الرجل الذي يجلس علي الأرض ويقول: لما نشوف واهي قعدة! ❊❊❊ تدفق الحشود إلي موقع سفارة العدو يتزايد بعد صلاة التراويح.. ثوار يناير يتخذون أماكنهم أمام بوابة العمارة أسفل الكوبري وحناجرهم لا تكف عن الهتاف وأعينهم تلاحق العلم الصهيوني بانتقام قادم، بينما ينشط الإخوان المسلمون علي ظهر الكوبري وهم يظهرون شعاراتهم عن طريق يافطات كبيرة الحجم تطالب بطرد السفير، وينضم إليهم السلفيون بأعلامهم السوداء فضلا عن أمواج البشر التي جاءت من كل حدب وصوب في مصر لتشارك في التظاهرة الكبيرة. صور عبدالناصر كان يرفعها بعض الأشخاص الذين لا تعرف إن كانوا ينتمون للاشتراكيين أم لحزب الكرامة أم عشاق الزعيم الراحل. الداعية صفوت حجازي يصول ويجول وهو محمول علي الأكتاف ليقود تظاهرة كبيرة تروح وتجيء في المكان بينما حرق الأعلام الاسرائيلية يأتي من كل مكان تقريبا، بينما لا يستطيع أحد أن ينال من العلم الذي يرفرف في سماء مصر وأرضها لا زالت تلعق دماء الشهداء الأطهار.. ❊❊❊ الصواريخ النارية المصوبة إلي العلم تتزايد، والعلم يراوغ بمهارة تزيد من ألم الجماهير التي قررت إنزاله بأي شكل من الأشكال.. أقف بجوار مجموعة من الشباب تخطط لحرق علم السفارة فيقترح أحدهم استخدام عدسة عاكسة للطاقة الشمسية في الصباح، ويتحدث آخر عن إمكانية الطائرة الصغيرة التي تعمل بواسطة ريموت كنترول في النيل منه إذا تم إشعال خلفيتها بطريقة ما.. ويفكر أحدهم في ربط أعواد من البوص تصل إلي الارتفاع المطلوب يكون في نهايتها شعلة! ❊❊❊ الجموع المحتشدة تعطل إلي حد ما حركة المرور علي الكوبري، فيقوم بعض الشباب بمعالجة الأمر بإرجاع الناس لإفساح المجال للسيارات القادمة التي تتوقف برضاها فتخرج منها رؤوس مصرية تهتف ضد إسرائيل وتنادي بدورها بإسقاط السفير وإنزال العلم. تضخمت قضية إنزال العلم الذي ظل يرفرف مستفزا كرامة المصريين، فأصبح القضية رقم واحد في محاكمة إسرائيل علي عدوانها الأخير. حالات من الإغماء تصيب ثوار يناير بعد فشلهم في تخطي الشرطة العسكرية والصعود لإنزال العلم.. هيستيريا لا توصف وإصرار كامل علي أن يتم إنزال العلم في تلك الليلة. ❊❊❊ المشاعر الكارهة لإسرائيل تضغط علي الجميع حتي يقرر ثوار يناير بأنهم سيبدأون التحرك في الساعة الثانية تماما مهما كان الثمن إذا لم يتم إنزال العلم.. حينها كانت الساعة تشير إلي الواحدة والنصف، ومع اقتراب الوقت تشتعل الحناجر وتهدر القلوب وتنشط الأجساد في استعداد إلي زحف بات وشيكا لوضع نهاية للعلم المستفز. قد يختلف المصريون في كل شيء لكنهم يتفقون علي كراهية إسرائيل، ربما لهذا السبب نسي الجميع انتماءاتهم الحزبية والسياسية وراحوا جميعا يهتفون بقلب رجل واحد بطرد السفير وإغلاق السفارة.. قبل الثانية بقليل تحدث بعض المناوشات بين الثوار والشرطة العسكرية يلقي فيها الثوار بفروع الأشجار وزجاجات المياه الفارغة، إلا أن ضبط النفس من جانب الشرطة العسكرية وهتاف أغلب الثوار "سلمية .. سلمية" سيعيد الأمور إلي ما كانت عليه، ومع اقتراب الساعة من الثانية يتهيأ الثوار لاقتحام السفارة بخطوات عسكرية، إلا أن الشحات بقدرة قادر قرر أن يمنع الكارثة بصعوده المفاجئ الذي ظن البعض أنه نوع من الخيال. نظرات الثوار والضباط والجنود ترقب الحدث المثير في حالة من عدم التصديق لما يجري أمامهم وشاب يتسلق العمارة الشاهقة بمفرده لا يحتمي إلا بعلم بلاده وهو يضعه كمعطف يمنحه الشجاعة. إنزال العلم الإسرائيلي كان بمثابة الإنجاز المصري المهم الذي لم يتحقق علي مدار عشرات السنين ظل فيها جاثما علي القلوب. رمزية الحدث أشعلت المتظاهرين فهللوا وكبروا وهم يشاهدون علم بلادهم في وضعه الصحيح شامخا بعزة وكرامة وقد وضعه بطل من أبطال يناير قرر أن يفتتح بيديه الكريمتين فصلا جديدا من فصول الثورة المباركة. ❊❊❊ انتظار الثوار للبطل لم تطل مدته لكن استعجالهم علي تقبيل وجنتيه جعلهم يشكون في أن الشرطة العسكرية من الممكن أن تكون قد احتجزته للتحقيق فهتفوا: "قولوا للعسكر مايزعلش.. لو البطل مانزلش" ابتسامة الضباط كانت كفيلة بطمأنة الجموع، وإشارتهم المتوالية بأيديهم أنه في الطريق إليهم جعلتهم يستعدون لاحتضان بطل حقيقي من ثورة كل من فيها كانوا أبطالا حقيقيين. ❊❊❊ علي الأعناق تم حمل الشحات لتطوف به الجموع ووجهه يلمع خلف فلاشات المصورين الذين تزاحموا عليه. وهو يفرق علي الناس قطعا من علم إسرائيل بعضهم قرر الاحتفاظ به في إطار تخليد الحدث وآخرون أصروا علي أن يكون خرقة بالية تصلح لتلميع الحذاء بينما قرر البعض حرق ما تطوله يده من القماش الرديء. كان قرار الجموع التي تتحرك بالشحات أن يذهبوا به إلي ميدان التحرير، ليبدأوا اعتصاما جديدا لا ينتهي إلا بطرد السفير، وأمام حديقة الحيوان رأي الثوار مصفحات الجيش رابضة في أماكنها يعتليها مجموعة من الجنود تصفق بحماس للبطل الذي اتجهت به الجموع إليهم ليعتلي بدوره إحدي المصفحات ويعود هتاف: الشعب والجيش إيد واحدة.. تلقي البطل مختلف الأحضان وانهمار القبلات علي وجهه جعلته يصاب بحالة من الاختناق فأدخلوه سيارة إسعاف وقفت امرأة أمامها وهي تزعق" اوعوا تخلوها تتحرك.. الواد ممكن ياخدوه.. ده رفع راسكم".. استغاثة المرأة جعلت عددا من الشباب ينام أمام سيارة الإسعاف التي تجمهر حولها الناس وحاول الصحفيون تصوير البطل وهو يتلقي علاجا خفيفا. ❊❊❊ في الحقيقة لا ندري كيف سيطر الداعية صفوت حجازي علي الموقف، ففتح بذراعيه باب السيارة وهو ينادي علي الشحات أن يأتي معه، فطاوعه الأخير ليفاجأ الجميع بسيارة حجازي تقف أمام سيارة الإسعاف فيتجه إليها وهو يحتضن الشحات ويجلسه بجانبه في السيارة التي مضت في طريق معلوم مخلفة وراءها أسئلة لا حصر لها.