هذا الأسبوع نحتفل بالذكري ال103 لمولد التوأم، عملاقي الصحافة العربية، علي ومصطفي أمين مؤسسي دار أخبار اليوم العريقة.. والملايين من عشاق التوأم، والمئات من تلاميذ التوأم يكادون يحفظون سيرتهما من فرط حبهم فيما يكتبه التوأم أمين، والتي كانت دافعا للكثيرين لاستمرار مسيرة حياتهم، وكانت أملا لآخرين كاد اليأس يفتك بهم. فقد كان الأخوان دائما ما يبثان الأمل المشرق في النفوس، بل اخترعا أعياداً للم الشمل بين الأسرة الواحدة كعيد الأم وعيد الأب، وللتآخي بين الناس كعيد الحب، وكانا أول من غزل العمل الاجتماعي، في العمل الصحفي واستغلا الصحافة لنشر الخير في المجتمع من خلال »ليلة القدر» و»لست وحدك» و»نفسي» و»اصنع نفسك». أما علي المستوي الصحفي فهما سيظلان أول من أطلق صحافة الخبر في مصر، وأول من حول دفة الصحافة المصرية من صحافة الرأي إلي صحافة الخبر بعد أن أطلقا »أخبار اليوم» ثم »الأخبار» وتلاميذهما مازلوا ينشرون تعاليمهما في كل أرجاء الدول العربية. وقد حاولت أن أجري حوارا مع السيدة إيزيس رفيقة الدرب لمصطفي أمين ولكنها رفضت لأنها قررت عدم الظهور في وسائل الإعلام منذ وفاة حبيبها عام 97، ولكنها سمحت لي بمقابلتها، وكانت تتحول قسمات وجهها كفتاة في العشرينيات كلما ذكرت اسم مصطفي أمين الذي كان يحب أن يناديها »زيزي».. وباءت كل محاولاتي معها بالفشل، وبلغ بي الأمر بأنني قلت لها إنه لو كان مصطفي بيه علي قيد الحياة لأصدر قرارا برفتي لأنني فشلت في عمل »حوار».. فضحكت وقالت لي سأعوضك عن الحوار.. وسأهديك خطابات كان يرسلها لي من السجن وقت أن كان مسجوناً سياسياً، قبل أن يتزوجا، وكان يذكر فيها جملة »الغد القريب» التي كان يعني فيها الزواج بها.. وكان يؤرخها بتواريخ قديمة ولم يذكر فيها اسمها ويبدؤها بكلمة »حياتي» حتي لا يقع عليها ضرر إذا تم كشف هذه الخطابات أثناء تهريبها. وكل هذه الخطابات التي تنشرها »آخر ساعة» تنشر لأول مرة من الحبيب مصطفي إلي الحبيبة »زيزي».. وسأترك للقارئ الاستمتاع بهذه الخطابات البديعة. وطبعاً لن أجرؤ علي نشر تفاصيل اللقاء والدردشة التي حدثت مع السيدة الجليلة إيزيس والتي باحت لي فيها بأسرار كثيرة التزاماً مني بالوعد الذي قطعته علي نفسي بألا أنشر ما دار بيننا.. فهكذا علمنا مصطفي أمين أخلاق المهنة. رحم الله التوأم.. عبد الحافظ 29 ديسمبر عام 1970 يا حياتي أتصور أن بعض من حولك يعاملك، كأنك امرأة ناعمة جدا، رقيقة جدا، أشبه بالعرائس الملفوفة بورق السوليفان! والعجيب أنني لم أشعر أبدا أنك امرأة من القش! شعرت دائما أنك أشبه بالجبل. تصمدين للرياح، تواجهين الزوابع، تتحطم عليك الأعاصير! شعرت أنك قادرة علي الاحتمال وأن فيك ميزة التحدي.. فإذا صادفك إعصار.. تحولت أنت إلي إعصار!.. وإذا واجهت عاصفة كنت أقوي من العاصفة! المرأة التي تذوب وتضعف وتستسلم وهي بين ذراعي، لاتكاد تواجه الأحداث، حتي ترتفع إلي مستواها، والضعف يصبح قوة، والاستسلام مقاومة. والذوبان صمودا! هذا التناقض العجيب في شخصيتك هو أحد أسرار عشقي لك وإعجابي بك، وإيماني أنك خلقت لي! كنت ألاحظك أثناء الأزمات التي تمر بنا، وأراك وأنت تتجلدين أمامها، أشعر بقلبك يتمزق ولكنك لاتحني رأسك! أحس بك تموتين في داخلك وأنت مصرة علي الوقوف علي قدميك، أتلذذ باستسلامك الكامل لي، وأتلذذ بعنادك العجيب في مواجهة الأحداث وتحدي الأزمات! ولاشك أن حبنا أعطاك مناعة، ومنحك قوة وصمودا، فنحن نحس دائما أننا معا، ولهذا لانخاف من شيء. حبنا يجعلنا نحس أننا أقوي من كل العقبات التي تقف في طريقنا، ولقد استطاع حبنا أن يقاوم أهوالا، قاوم الفراق، قاوم الحرمان الطويل من اللقاء، قاوم انقطاع أخبارنا، قاوم أشكالا وألوانا من العقبات، وأعتقد أنه قادر في المستقبل أن يقاوم أكثر مما قاوم في الماضي. وأن هذا الحب خلق ليصمد.. وولد ليقاوم! ولهذا لا أخاف علي هذا الحب من شيء، أشعر معه بأمان عجيب. أشعر معه بثقة في المستقبل، أجد فيه كل ذكرياتنا وكل أحلامنا. كل أشواقنا وكل أمانينا. أجد فيه الدرع الذي يحمينا، أجد فيه عمودنا الفقري.. أجد فيه القوة والثبات والإصرار.. وعندما أجدك بكل هذه القوة، أشعر بلذة، كاللذة التي أحس بها وأنت تذوبين ضعفا واستسلاما في أحضاني! قوتك تثيرني كما يثيرني ضعفك، جمودك يهزني كما يهزني استسلامك. ما أروعكِ من امرأة! ترفعين الراية البيضاء لرجل واحد، وترفعين الراية الحمراء للدنيا كلها! ما أعجبك من امرأة أصبحت في حبها جارفة كالعاصفة.. عنيفة كالإعصار.. وممتعة كالنسيم! أجد لذة في أن أمتلكك.. وأشعر أنني ملكت الدنيا عندما امتلكتك! أشعر بمتعة في أن أعبدك، وأحس براحة في إيماني بك. أشعر بنشوة الغازي الفاتح الذي استسلمت له القلعة المنيعة دون أن يطلق رصاصة واحدة! أحس بفخر عجيب لأنني وجدتك.. أشعر بزهو لأنني اكتشفتك.. أحس بنفسي لأنني أحببتك! في بعض الأحيان أقول لنفسي إنني لا أستحقك! ثم أعود وأهزم تواضعي وأقول لنفسي إنني أستحقك.. فأنت وجدت لأهواكِ، وخلقت لأحبك، وعشت لأعشقك! أنت لا تصلحين إلا لي! .. ولا أصلح إلا لكِ. إنني لم أفهم رجلا أو امرأة كما فهمتكِ. ولا عرفت إنسانا كما عرفتكِ... كل شيء فيك خلق ليهواني، وكل شيء فيَّ وجد ليعشقك! كان من المستحيل أن أجد في امرأة كل ما وجدته فيك! إنني لم أجد فيك الأنوثة الطاغية فقط.. بل وجدت فيك الحكمة والجنون معا!.. وجدت فيك الرقة والجلال، وجدت فيك الشهوة والعقل، وجدت فيك الحب والحنان. وجدت فيكي أحلي عواطف البشر! إن قدرتك عجيبة علي التجاوب الكامل معي تذهلني، مهما تكررت! أذهلتني في المرة الأولي كما أذهلتني في المرة الأخيرة قدرتك العجيبة علي فهمي بغير أن أفتح فمي، علي الإحساس بي بغير أن أقترب منك، علي سماع صوتي بغير أن يتحرك لساني! علي الاندماج في أعماقي مهما بعدت المسافة بيننا.. وهذه القدرة التي تتكرر كل يوم بشكل مختلف تذهلني، وتسعدني. تدهشني، وتسكرني! ولا أملُّ من تكرار هذا المعني مهما قلته لك ألف مرة، لأنني أحس به في اليوم ألف مرة! أحيانا أقرر أن لا أقول لك أي شيء، لأنكِ أصبحت تعرفين كل شيء! ولكني أجد لذة أن أقول لك كل ما قلته لك من قبل.. تماما كما أجد لذة في أن أقول لك كل لحظة أحبك.. يا حبيبتي! 30سبتمبر سنة 1970 ياحياتي مضت أيام كثيرة لم أكتب إليك.. لا أعرف عددها، في كثرة الأحداث الهائلة التي مرت بي نسيت الأيام.. كنت أعتمد علي الإذاعة في معرفة الساعة، ولم أعد أعرف كم الساعة.. أصبح الوقت لا أول له يعرف ولا آخر له يوصف.. وزاد الطين بلة أن خطاباتي لا تخرج إليك، وخطاباتك لا تصل لي.. فمنذ أربعة أيام لا أعرف أخبارك، ولا تعرفين أنبائي.. وأنا أكتب إليك ولا أعرف متي سوف يصل خطابي، أو هل سيصل أو لا يصل.. نحن نعيش فيما يسمونه درجة الطوارئ العظمي! ومعني ذلك أن ننقطع عن العالم، وينقطع العالم عنا! فمنذ أربعة أيام لم تصل إلينا صحف أو مجلات أو خطابات، ولولا نسخة من جريدة وصلت إلينا، لعشنا لا نعرف ما يدور حولنا، وأرجو أن تنتهي حالة الحصار هذه غدا أو بعد غد، فإن كل ما بقي لي من سعادة في الحياة أن أكتب إليك، وأتلقي ما تكتبين.. وعندما أحرم من هذه السعادة الوحيدة أشعر كأنني لا أعيش! وأنا لا أشعر بقلق عليك في خلال هذه الأيام التي مضت دون أن يصل البريد، علي العكس أنا مطمئن عليك أكثر مما كنت في أي يوم مضي، ولكن اليوم الذي يمضي دون أن أقرأ كلمة منه أشعر أنه يوم بلا طعم وبلا رائحة! فقد أصبحت أنت التي تعطين لكل أيامي طعما ورائحة! وعندي أمل كبير، أن تكون كل الخطابات تراكمت لتصلني في يوم 2 أكتوبر! كأن سعاة البريد عرفوا بما يعني هذا اليوم لنا، فرأوا أن يؤجلوا تسليم الخطابات لنا إلي أن يجيء هذا اليوم الموعود! والغريب أن قلبي كان يحدثني أن شيئا ممكن أن يحدث.. ولهذا كتبت لك عن هذا اليوم قبل موعده بعدة أيام.. وأتصورك تعيشين كل هذه الأيام وقد انقطعت رسائلي عنك، وسوف تصابين بخيبة أمل، عندما تجدين الرسائل قصيرة جدا.. ففي خلال هذه الأيام كلها لم أتمكن من أن أكتب لك شيئا.. ولأول مرة شعرت أن القلم توقف في يدي.. وأن الكلمات التي كانت تتدافع من فمي تراجعت.. ولأول مرة لا أجد موضوعا أكتب فيه.. ولأول مرة أكتب ولا أعرف هل سيصل إليك ما أكتب.. فلقد حدث منذ بضعة أيام أن ضُيق الحصار فجأة.. وبدأت أحس بضيق شديد في الكتابة، ولست أعرف هل هذا التضييق سوف يستمر، أم هو مثل كل شيء مؤقت هنا.. وأنه لن تمضي بضعة أيام حتي تعود ريمة إلي رسائلها القديمة! ولكن مهما حدث فإنني سوف أحتمل، وأعرف أنك سوف تحتملين.. فقد أصبح الاحتمال والصمود روتينا في حياتنا.. أصبح أشبه بالأكل والشرب والسيجارة.. وعندما تتأخر خطاباتك ينقلب مزاجي.. فخطابك في الصباح هو فنجان القهوة الذي يعدل هذا المزاج.. وأحيانا كثيرة يتحول فنجان القهوة إلي كأس من الويسكي ، أو كأس من الشهد المذاب.. وقد أحتمل أن أحرم منه يوما أو يومين، ولكن عندما تمضي عدة أيام ولا أذوقه أشعر بعطش شديد.. ويتضاعف عطشي عندما أعرف أنك في نفس الوقت محرومة من فنجان قهوتك المعتاد.. وخاصة أن يحدث هذا في أيام معينة تريدين أن تكوني فيها معي بقلبك وروحك وأشواقك وفكرك وكيانك. إن أغرب شيء في حبنا أنه يتأثر بأحداث العالم.. ولا أظن أنه يوجد في العالم عشاق مثلنا يقرأون أنباء حبهم في صمت العالم.. فكل شيء يحدث يؤثر في موعد لقائنا أو في موعد وصول خطاباتنا أو في كتابة هذه الخطابات.. ومن الطريف أنه عندما تقرر تأخير الساعة ساعة لم أفهم من هذا الخبر إلا أن معناه أن خطابك الذي كنت أنتظره اليوم.. سوف يتأخر ساعة.. ولم يتأخر ساعة فقط، بل تأخر اليوم كله.. وقيل لي أن لا خطابات اليوم، ولا أول أمس، وأول أول أمس، وربما يفرج عن الخطابات غدا.. وسوف أعيش أنتظر غدا.. أستعجل الصباح، وأستبطئ الليل، وأمضي كل ساعاتي في الانتظار.. وأتصورك أمامي تفعلين مثل ما أفعل، وتفكرين فيما أفكر، وتتساءلين بينك وبين نفسك تري ماذا يفعل الآن ؟ تري ماذا يقول الآن ؟ ولكي أريحك أقول إنني أفعل ما تفعلين، وأقول ما تقولين، وأفكر في كل ما تفكرين فيه! وهذا أجمل ما في حبنا ياحبيبتي! أول نوفمبر سنة 1970 ياحياتي ما أكثر الأماكن التي أصبحت أذهب إليها معك بخيالي! أفكارك عما نفعله في الغد، فتحت لي أبوابا من الجمال! كنت أتصورك في بيتي وفي بيتك! في سيارتي وفي سيارتك! كان هذا هو عالمنا فقط! وكنت قانعا بهذا العالم، سعيدا به، راضيا به. وإذا بك توسعين هذا العالم، تضمين إليه حدودا جديدة، تضيفين إليه أماكن جديدة! إنني الآن أذهب بخيالي إلي المستشفي، أغافل الممرضين لأعانقك. أغافل الحارس لأقبلك. أخترع أسبابا لتبقي معي طوال الليل وأنا اتقلب علي » جمر النار »! ثم ينتقل خيالي إلي مكتبك، أراك أمامي وأنت تحملين كل يوم شيئا صغيرا للعش الصغير، اليوم طقطوقة! غدا صورة! بعد غد سجادة صغيرة! أري المكتب وهو يتكون قطعة قطعة، ما أجمل أن نبني معا عشنا! أحبه بسيطا، أحبه مريحا، أحبه هادئا، أحب أن آراك وأنت واقفة علي كرسي تدقين مسمارا في الجدار تضعين فيه صورة صغيرة! أحب أن أري بيجامتي وهي معلقة في الدولاب بجوار قميص نومك، وكأنها تعانقه! أحب أن أسمع مفتاحك يدور في الباب، وآراك داخلة منه، وعلي ملامحك هذه الفرحة التي أحبها، والتي أفهم معناها، والتي تسكرني عندما أتخيلها! أتصورك في الغرفتين الصغيرتين، في المطبخ الصغير الذي أتمني أن يكون فيه فريجيدير صغير، في الحمام الصغير! أنني أري المكتب المؤقت الذي سوف تستأجرينه أولا، وأري المكتب الدائم الذي سوف تستأجرينه بعد ذلك أتنقل بينهما بخيالي! ولكن أتنقل ويدي في يدك، وذراعي حول خصرك، ورأسك علي كتفي! ثم أتصورك معي في بيروت، في روما، في لندن، في باريس، في كل مكان ذهبت أنت فيه وحدك، في كل مكان سافرت إليه وحدي! إنني الآن أتخيلك في كل فندق نمت فيه طوال حياتي، أتخيلك في كل مطعم أعجبني في العالم، أتخيلك أمام كل منظر جميل بهرني! أريد أن أعيد كل حياتي من جديد معك! أشعر أن المناظر سوف تصبح أروع، أتصور الفنادق سوف تصبح ألذ! أتصور أن الطعام سوف يصبح أشهي! أن الدنيا هي هي، ولكنها سوف تتغير عندما نكون معا، ستكون أجمل وأبهي.. ستكون أكثر سحرا.. ستكون جنة ونعيما! ما أحلي الدنيا بين ذراعيك يا حبيبتي! 15 أكتوبر سنة 1970 يا حياتي سوف يكون أول شيء نفعله في الغد أن نبحث عن تليفون! بأي ثمن! بأي طريقة! إنني لا أتصور حياتنا في الغد بغير هذا التليفون! تصوري حياتنا في الغد بلا تليفون. عندما يطب علينا زائرون بغير موعد سابق! عندما يجيئون في الوقت غير المناسب! والضيوف عادة يجيئون في الوقت غير المناسب! وجود تليفون.. لترتبي المقابلات والمواعيد.. ولتهربي من الضيوف الثقلاء! وأتصور أنه بلا تليفون سوف يستمر قلقك وقلقي! سوف تقيمين الدنيا وتقعدينها إذا تأخرت عليك، سوف أتصور جميع حوادث المرور في الدنيا إذا تأخرت عليّ! وأن من رأيي أن نحاول حل هذه المشكلة الآن! نحاول المستحيل من أجل الحصول عليه. حتي لانضيع وقتنا في الغد في الجري وراء التليفون! أنت تعتقدين أنه عتدما يجيء الغد سوف تحل مشكلة التليفون أتوماتيكيا، ولكني لا أريد أن أترك أي شيء للظروف والاحتمالات! ليس معني ذلك أنني أتصور أن الغد سيجيء غدا، ولكن أتصور أن مشكلة التليفون سوف تستغرق زمنا طويلا.. فلماذا لانحاول حلها من الآن! وأعتقد أنه مادمت تفكرين أن نمضي وقتا في بيتنا، فيجب أن يكون هناك تليفون، لتطمئني من حولك.. أنك لم تتوهي في الطريق العام أو لم ترتكبي حادث مرور! وأحيانا أسخر من نفسي، لأنني أفكر في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأخري قبل (الهنا بسنة).. ولكني .. وذلك من عيوبي أحب أن أشمر عن ساقي قبل أن أري البحر! لا أحب أن أترك أي شيء للظروف، وعندما أفكر في الغد أجد نفسي، لا شعوريا، أبحث أدق التفاصيل. أفكر أن نشتري راديو ترانزيستور صغير لنضعه في غرفتنا، لقد كان عندي 2 جهاز تليفزيون، أضع أحدهما في المكتب والآخر في غرفة النوم. ويظهر أن أحدهما اختفي! وكان لديّ عشرات من الراديوهات الترانزيستور مختلفة الأشكال والأحجام، أحدها يوضع في جيب البنطلون الصغير وهو بحجم الولاعة ويظهر أنه اختفي أيضا. وكل هذا لايهمني! فما أكثر ما أخذوه! وكل هذا لايساوي شيئا بجوار حريتي! ولكن كل مايهمني أن يكون في غرقتنا راديو ترانزيستور ليحدث ضوضاء! أنني أفكر في أشياء غريبة جدا! أشياء صغيرة جدا، ولقد تضاعف تفكري في هذه الأشياء في المدة الأخيرة! أعرف ماذا ستقولين.. سوف تقولين » بس إنت أخرج » ومن الممكن أن يجيء كل هذا في خلال ساعات! وأنت علي حق!.. ولكني أصبحت أمضي كل وقتي أفكر في كل شيء.. كل شيء. إنني أشعر بمتعة لاحد لها أن أفكر في كل هذه الأشياء. كأنني أقوم برحلة إلي الغد. كأنني أشم رائحته وأذوق طعمه.. وما رائحة الغد إلا رائحتك أنت، وماطعم الغد في فمي إلا طعمك أنت! وأنا أراهن أنك مثلي تفكرين في ألف الشيء وشيء في الغد! وعندما تفكرين في هذه الأشياء تشعرين كأنك وضعت رأسك المتعب، فوق وسادة من ريش النعام! إن هذا هو ما يحدث لي فعلا أثناء تفكيري في تفاصيل الغد! ستضحكين مني! ستقولين أنه ستكون في الغد مشاكل أهم كثيرا من مشكلة التليفون والراديو، أعرف ذلك، ولكني أشعر شعورا غريبا أن كثيرا من المشاكل سوف تحل نفسها بنفسها! أنني أري الغد دائما بلا مشاكل! آراه مفروشا بالورد! أو ربما أنني في عقلي الباطن أحس أن حبنا قادر علي كل شيء! أنه تغلب في الماضي علي مشكلات لا أول لها ولا آخر، وهو قادر في المستقبل، وبنفس السهولة، أن يقضي علي أي مشكلات جديدة، ثقتي بأن حبنا يصنع المعجزات، هي ثقة لا حدود لها، وفي كل يوم يزداد إيماني بهذا. كل دقيقة تمضي أشعر أنها تقربني إلي الغد أكثر وأكثر!.. وعندما أقول أنها تقربني إلي الغد أعني أنها تقربني إليك. تقربني إلي جنة أحلامنا! إننا في هذه السنوات صنعنا الجنة. ولم بيق إلا أن نعيش فيها يا حبيبتي! 26 يناير سنة 1971 ياحياتي لاأزال إلي الآن سابحا في سماء الغد! لا أريد أن أنزل إلي أرض الواقع! فما أحلي كل دقيقة أمضيها أحلم بالغد يا حبيبتي!.. إن البعض لايزال يؤكد أن الغد سيكون في أيام العيد!.. ولكني أخشي أن نصاب بخيبة أمل إذا اعتمدنا علي تحقيق هذه الإشاعات خلال أيام قليلة.. الشيء الذي يبدو واضحا أن الغد في الطريق.. ولكن أحدا حتي الآن لايعرف موعد وصوله! والذي يهم أن نعرف هذا الموعد.. ولازلت أشك أن يشرق النور كله مرة واحدة، ولازلت أميل إلي أن شعاع الشمس سيكون بالتدريج.. فنري الغسق.. ثم الفجر.. ثم بعد ذلك طلوع النهار! وأنا كما قلت لك دائما لست مهتما بدرجة النور، إنني مستعد أن أمضي عمري معك في ضوء شمعة! الشمعة وأنت معي هي الشمس المشرقة! من العجيب أنني أفكر أحيانا في أشياء وكأن الغد يقترب فعلا!.. وأخشي أن يفاجئنا الغد بغير استعداد! فقد فكرت اليوم في أنني ذكرت لك ما أحتاج إليه في يوم العيد، ونسيت أن أطلب شيئا هاما، وهو أن تحضري لي من البيت معك حقيبتين في الغد طبعا! فقد لاحظت أن لدي أشياء يجب أن توضع في حقيبتين حتي لا أضطر أن أحملها في عدة » بقج » لا بقجة واحدة!.. وسوف يكون منظري أنا وأنت مضحكا ونحن خارجين نحمل » بقج » فوق رؤوسنا! العجيب في أمري أنني أعيش في الغد أضعاف ما أعيش في اليوم! وأنني أعذر نفسي لأنني أفعل ذلك، فالغد هو أنت، وأنت هي الجنة التي أنتظرها، وأحلم بها، وأتلهف عليها! أتصور حياتنا معا، أتصورك معي في كل مكان، في كل غرفة، في كل وضع، أحيانا أسمع صوتك قادما لي من الغد! يناديني فأسرع إليك! أري ذراعيك مفتوحين لي فأضمك إلي صدري! أحيانا أسمع صوتك وأنت تقولين » حبيبي ».. فأشعر أنني أذوق الشامبانيا فعلا.. وكأنها تسري في دمي! كل شيء معك في الغد جميل كأنه حلم، وقريب كأنه واقع! وأحاول أن أقنع نفسي بأن أتحفظ في تفاؤلي.. وإذا بصورتك في الغد تزيد من تفاؤلي وتضاعف إيماني بأن الذي نسمعه هو خطوات الغد.. وليس خطوات أحلامنا وأمانينا! تعال أيها الغد!.. تعالي يا حبيبتي! الثلاثاء 3 نوفمبر يا حياتي لازلت لا أصدق! لقد قيل لي إنني سوف ألقاك قريبا. ومع ذلك فإنني لا أصدق أذني! لا أصدق كل التأكيدات. إن هذا الخبر الذي بقيت أنتظره كل يوم فوجئت به. أريد أن أكتب لك ولا أستطيع أن أكتب كلمة واحدة! ضاعت كل كلماتي، ذهبت كل المعاني من رأسي، كأنني لا أريد أن أقول أي شيء علي الورق. كأنني أريد أن أقتصد كل كلمة لأهمس بها في أذنك. لأقولها لك وأنت أمامي. إنني أشعر بسعادة غامرة لأنني سوف أراك بعد طول الفراق. أخشي عندما نلتقي أن تتعطل لغة الكلام. أن نبقي طول الوقت صامتين ننظر إلي بعضنا، نصاب بالخرس، نبقي مشدوهين. لا نصدق أننا رأينا بعضنا بعد طول هذا الفراق المرير! لا أريد أن أمضي في الحلم. أخشي أن تصدمني أنباء جديدة تقول إن ماسمعته ليس خبرا، ولكنه إشاعة مثل باقي الإشاعات! ولكني أسمع حولي من يذكرونه. أري بعضهم يرقص من الفرح، أسمع زغاريد! ألوف الآباء حرموا من رؤية أولادهم من رؤية أمهاتهم من رؤية من يحبون! قلبي يزغرد أكثر من كل زغاريدهم! لأنني سوف أري فيك كل الدنيا. سوف أري فيك كل من أحبهم وأعشقهم وأهواههم وأحلم بهم! أرجو من الله أن يكون النبأ صادقا! أرجو أن أعيش أعد الساعات والدقائق والثواني لموعد اللقاء! من الغريب أن الفرحة جعلتني لا أستطيع أن أكتب. إنني لا أستطيع أن أبقي في غرفتي دقيقة واحدة، كل من أراه أسأله، أحاول أن أتأكد من كل إنسان التقي به! إذا كانت هذه فرحتي من أجل أنني سوف ألقاك لمدة بضع دقائق.. فسوف تكون فرحتي عندما يكون لقاؤنا الخالد الدائم.. لقاء الغد الموعود. أرجو يومها أن يتحمل قلبي الفرحة! ولكني الآن فرح أنني سأراك.. أرجو أن تعذريني لأن خطابي قصير جدا.. ولكن فرحتي كبيرة جدا يا حبيبتي!