عندما قامت حركة الجيش المصري الباسل في يوليو 52 ذهب الشعب بأغلبيته الساحقة مؤيدا وداعما، فأصبحت ثورة عسكرية شعبية كاملة.. ورغم أن تلك الثورة أكلت أبناءها علي مر السنين إلا أن إخلاص قائدها الأول وشعبيته الجارفة، كانا الضمانة لنجاحها واستمراريتها، وقد عمل الزعيم الراحل جاهدا علي هدم كل قواعد الفساد القديمة، وبناء حياة جديدة لصالح جموع الشعب وتأكيد عزة وكرامة مصر.. وعندما اندلعت ثورة 25 يناير الشعبية المجيدة دوت أصوات الملايين بكل أنحاء مصر والعالم "سلمية سلمية" حتي تم خلع رأس النظام البائد، الذي حرص طوال 30 عاما علي إفساد وبيع كل شيء علي أرض مصر، وكان آخر وأخطر خطاياه محاولة العودة بالزمان إلي الوراء والتمهيد لتوريث الحكم "الجمهوري"، لكنه لم يدرك أن غالبيتنا العظمي بمن فيهم أنا ومعنا المستفيدون بالفساد والسلب والنهب كنا ضد التوريث.. ومثلما فعل الشعب مع جيشه في 52 لم يخيب الجيش ظن شعبه في 2011 ورفض أن يوجه رصاصة نحو صدر أحد من إخوته أو أبنائه البررة، وانحاز إلي الشعب المطحون.. لكن الفاسد الأكبر المخلوع لم يرد أن يبتعد عن الساحة دون أن يدس السم في العسل، فترك حكومة "ملغمة" بتلاميذه وشركائه المخلصين للفساد والنهب والتجريف.. لكننا بعد رحيله أصبحنا في موقف لا نحسد عليه، فملايين الشعب حطمت حاجز الخوف الذي كنا نلعب عليه باستمرار، وشباب الثورة ومفجرها يملك من الوعي والإصرار بأكثر كثيرا مما وصل إليه خيالنا، وفوق ذلك فمجلس الحكم الجديد مؤيد ومتعاطف مع مطالب الثورة.. ولم أجد بدا من استخدام ألعاب الحيلة وكسب الوقت، والعمل من خلال الأجهزة السرية التي كان الحكم البائد معتمدا عليها بشكل تام، وقد أفسد بعضها وحولها لوحوش جائعة ومتعطشة باستمرار لممارسة الظلم والقهر والفساد والاستبداد والخديعة.. (1) قد تكون القوة الجبارة وغير المسبوقة في تاريخ الثورات مانعا حاسما لعودة الأوضاع لما كانت عليه، لكنني لو تركت أهداف الثورة تتحقق لانفضح الكثيرون منا، فحجم المليارات من الأموال والأراضي والقصور والشقق المميزة التي استأثرنا بها مهول وفاحش.. لذلك سأبدأ خطواتي بمحاولة سريعة لمحو آثار تلك الجرائم والوثائق والمستندات التي يمكن أن تكشف عمليات السلب والنهب والرشاوي والتدليس في كل شيء تقريبا.. فلم يعد خافيا علي أحد في العالم أن حجم الفساد في عهد كبيرنا المخلوع لم يتكرر مثله في أي فترة سابقة من تاريخ مصر المديد.. وكنوع من إثارة الغبار والدخان سأطلق الأجهزة السرية ومعها المستفيدون من فلول النظام وعملائهم من البلطجية واللصوص والمساجين لافتعال المعارك الجانبية التي يتم خلالها بث الرعب ولفت الأنظار والتعمية بعيدا عن عمليات الفرم والحرق الحثيثة.. وربما قد تنجح هذه المحاولات في تحقيق "حلم آخر كبير" نتمناه، رغم يقيني باستحالة ذلك علي المدي البعيد.. فوق ذلك سأحرص علي اختيار كبار المسئولين والوزراء من شركاء النظام المخلوع وأعضاء أجهزته ومؤسساته المختلفة، ويكونون بذلك من المدربين "أوتوماتيكيا" علي العمل الموالي ل "سيستم" الفساد الذي ساد واعتاد عليه الناس طويلا، وأصبح من الصعب علي البسطاء فهم كل ما ينادي به الثوار خاصة في المسائل الكبري كالدستور والحريات وغيرها من المبادئ الحاكمة لإقامة مجتمع ديمقراطي حديث نسيت مصر معالمه منذ قيام ثورة 52 .. لكن العجيب أنني اكتشفت أن الشعب استعاد وعيه وعمق ثقافته بسرعة غريبة، فقد أيقظت روح الثورة مخزون التحضر المدفون بطبقات الذاكرة والتاريخ المصري عبر آلاف السنين.. وفي خط ثالث متواز سأقوم بعملية خاصة لتنظيف وترتيب أوراق كبيرنا، لأن الأمور لو تطورت لحد محاكمته مع بقاء ما يدينه يعني نهاية كل الشركاء والمستفيدين.. وأهم العناصر في هذا المجال مساعدته علي تهريب مئات المليارات ونقلها من دول أوربية معلومة إلي دول أخري، تسمح علاقاتنا بها بالتكتم ورفض إعادتها مهما حدث.. ولنبدأ بمساعدة أهم الأشخاص القادرين علي هذه العمليات للهروب أو السفر بحرية، وعلي رأسهم الأبناء وأهم الوزراء والشريك الرئيسي السري للكبير المخلوع.. ومن حسن الحظ أن الطائرات الخاصة تساعد علي السرية والسرعة والإنجاز في مثل هذه العمليات.. (2) أعترف بأنني وقعت في خطأ لا يقع فيه سياسي مبتدئ، فقد أعلنت لفضائية "بي.بي.سي" الدولية الكبري أنني لا أعلم شيئا عما سمي بموقعة الجمل رغم أنني من المفترض بحكم موقعي التنفيذي الكبير أن أعلم بكل مايدور في البلد، خاصة إذا كان علنيا وفي بؤرة الأحداث وفي أشهر ميدان بالعالم حاليا، كما أنني أكدت أن الثورة انتهت وأن الثوار قلة متناثرة سنسمح لها بالاحتجاجات المشروعة في ركن من الميدان علي طريقة "هايد بارك" وسوف نرسل لهم الأطعمة والبونبون، كما ارتكبت خطأ آخر عندما قررت أن الذي أكد لي تشرذم الثوار وقلتهم بعد انصراف الكثيرين هم "رجالنا" المتواجدون بينهم وسط الميدان.. وقد كشف هذا للثوار وسائلنا الخفية فأصبحوا أكثر وعيا وحذرا وفهما لما يجري.. ولم أكن أدري أن الثوار قد قضوا تماما علي محاولة رجال الأمن السريين ومعاونيهم من البلطجية والمأجورين، وقد التحقت بهم حشود ضخمة من مختلف فئات الشعب والتفت حولهم حماية واشتراكا مباشرا لهم في الاحتجاجات، التي تحولت في تلك اللحظة إلي ثورة شعبية عارمة لا راد لإرادتها.. ولا أنسي أيضا تلك المواجهة العلنية مع بعض أعضاء ومؤيدي الثورة بإحدي الفضائيات المحلية، وقد حاولت ان أبدو هادئا منطقيا، لكنني لم أشعر عندما وجدت نفسي أظهر بوجه آخر عصبيا، عنيفا، ومتعاليا علي شركاء اللقاء وعلي جمهور المشاهدين في ذات الوقت، فأنا الذي فعلت وفعلت وفعلت، ومن يفهم الشعوب جيدا يدرك أنها لا تحب من يمن عليها بما يقدمه من واجب تجاه بلده، وينسي أن الشعب هو سيد الأمة وليس المسئولين والحكام صغرت مواقعهم أو ارتفعت لأعلي القمم، وأن الخلط أوالمواجهة بين رفعة المنصب وقدر الشعب المتطلع الي الحرية والعدالة والديمقراطية، قد تكون فيه نهاية السياسي للأبد.. (3) تسبب إبعادي عن المنصب الكبير، الذي تم بصعوبة وإصرار غريب من ثوار الميدان، في أن تسيطر عليّ نفس الحالة من العصبية والتعالي.. فقد وجدت أن دوري الذي رسمه لي المخلوع وأجهزة الأمن السياسي السرية لمحاولة فرملة الثورة وإفراغها من محتواها لم يكتمل بعد.. وهنا اهتديت لحل قد يعيدني وبفعالية أكثر، فقررت الإعلان عن نيتي للترشح لمنصب الرئاسة، وأنه " لم يخلق بعد من يستطيع منعي من الترشح".. وأيقنت للمرة الثانية أنني تعجلت لأنه لا أحد يمنع أي أحد بعد الثورة من الترشح للرئاسة طبقا للشروط الموضوعة للجميع، وأدركت أنها لم تكن لغة سياسة سليمة، ولا لهجة تواضع مع شعب طيب يقدر الود والتواضع والكلمة الحلوة أكثر من أي شعب آخر.. كما أن لي من أعداد الموالين من نفس الأجهزة من يستطيع الدخول والتأثير علي مجري الاستطلاعات من المجلس الحاكم وغيرها، بما يوحي بشعبيتي وأنني أستطيع ان أكون ضمن أهم خمسة متنافسين.. إن القواعد الأساسية التي اعتمدت عليها لمحاولة إفراغ الثورة من محتواها ليست قليلة، فقد قامت الأجهزة السرية الموالية لل "سيستم" البائد بتجنيد الكثيرين ليكونوا مستفيدين وعملاء للفساد في كل المواقع الحيوية سواء كانت هذه المواقع كبري وهامة أو صغيرة لكنها مفصلية.. وعلي ذلك فلدينا من يعرقل "المراكب السايرة للثورة" وهناك من يعطل أي إصلاح كنا نضطر للموافقة عليه ظاهريا بضغط الميدان، ولدينا من الوسائل وترتيب الأوراق ما يضع اللص والفاسد في صورة البريء رسميا.. ولدينا كذلك من وسائل تسريب وضخ المعلومات الخاصة بحالات فساد معينة لامتصاص غضب الشارع ومن الطبيعي أنه يمكننا إخفاء حالات اخري أخطر وأهم، حتي لو تناولت سيرتها الصحف ونستطيع من المنبع أصلا إبعاد مستندات ووثائق خاصة ببعض المساعدين والفاسدين الصغار، وقد يكونون من المحظوظين فتستمر حمايتهم عندما تتركز اهتمامات الناس علي الكبار والمشاهير، ويري الناس أن هذا يطابق المنطق، خاصة عندما يتم محاكمة الكبار (اضطراريا طبعا).. فكيف تتم حماية الأقل نفوذا وقد طالت المحاكمة الأكثر قوة وسلطانا؟! (4) وأحمد الله أنه يسخر لي من البشر والأجهزة من يجعلني حتي الآن بعيدا عن "الحبس" وعن بؤرة الفضائح ووسائل الإعلام، وهناك ما يكفي من البلاغات التي قدمت ضدي.. فهناك الكثير من التحقيقات التي بدأ بعضها وينتظرني بعضها الآخر في موضوعات مختلفة.. وهناك العديد من البلاغات التي قدمها العاملون بالطيران حول إهدار المال العام أثناء عملي الوزاري، ومن الممكن إعادة إحيائها، وهناك بلاغات حول تملكي لقصور وڤيلل وأراض بأماكن كثيرة متميزة الموقع في مصر وخارجها، وبالتحديد في باريس، ونفس الأمر ينطبق علي رجل الجهاز الأمني الكبير، الذي ساعد معي في هروب البعض بالطائرات الخاصة والقول بأن ذلك تقصير مشترك، كما أشار البعض إلي مسئوليتي التضامنية في موقعة الجمل، وفي أعمال خاصة بالجمارك والمطارات، وهناك ترهات وإشاعات مغرضة حول مبالغ ضخمة أهدرت أثناء تنفيذ منشآت خاصة بالمطار والسياحة وإسنادي بالأمر المباشر لمشروعات ضخمة لأصهار وأقارب الفاسدات والفاسدين الكبار.. وهناك بلاغ آخر أمام الكسب غير المشروع بادعاء تضخم ثروتي ويقول المغرضون إنه لا حس ولا خبر عن التحقيقات علي الرغم من أن آخرين يتم تضخيم ونشر التحقيقات حولهم في كل وسائل الإعلام وباستفاضة غريبة.. إنهم لا يعلمون أن هذا التركيز علي البعض الذي أصبح "محروقا" هو بمثابة "الفدو" أو كبش الفداء لآخرين.. لكن الذي يقلقني أن وتيرة الجدية والإصرار عادت الي الميدان طلبا للمحاكمات الجادة والعلنية للمتهمين والفاسدين.. وحكاية العلانية هذه يمكنها أن تحد من نفوذ الأجهزة السرية وأساليبها في التأثير علي توافر الأدلة والمستندات اللازمة للإدانة اليقينية.. ربنا يستر! (5) مع أن وقائع الاتهام والمستندات التي جمعتها الأجهزة الرقابية حولي كثيرة، إلا أنها مازالت مغلولة اليد حتي الآن، لكن أكثر ما يؤرقني هو الكلام الذي يتناثر ولو من بعيد حول مسئوليتي التضامنية الأخري في عمليات قتل المتظاهرين، فوقائع الفساد المالي يمكن التصرف فيها من خلال "الورق" وشطارة الدفاع، وفي أسوأ الأحوال فالعقوبة لا تتجاوز السجن مهما كان عدد سنواته.. أما وقائع القتل فلو ثبتت مسئوليتي فيها فإن عقوبتها "ياحفيظ"، وكل من طالته التهمة ترتعد فرائصه، بمن فيهم أعلي مسئول مخلوع، فما بالي وغالبية عمليات القتل والقنص تمت خلال مسئوليتي، خاصة أن كل وسائل التشتيت والتقطيع والتمويت لهذه القضية لم تمر علي ثوار الميدان، فقد تغلبوا في جمعة "الثورة أولا" علي كل عوامل بث الفرقة وإغراءات "جني المكاسب" بين الفرقاء، ومن المتوقع أن تعود اللحمة بشكل أكبر مع مرور الوقت.. عندما يكتشف البعض أن وسائلنا لا تنضب لبث الشكوك وتدوير رءوس من نقابلهم بالترحاب، بينما نعد لهم من خلف ظهر الحكام حسني النية موسما للحرق.. وقد تخيل اللعبة علي غالبية الشعب من حسني النية أيضا، فتضطر للعودة والقبول بالفساد الذي نحاول تبييض صفحته من جديد. عشم إبليس في الجنة !