أطفال الورش العشوائية أثناء تصنيع أحد التانكات خطر .. مواد ملتهبة.. سريعة الاشتعال" عباراتٌ موجودة علي ناقلات المواد البترولية والكيميائية الخَطِرة التي تسير في الشوارع، قلما تلفت انتباه السائقين أو المارة إلا بوقوعِ كارثةٍ تقف وراءها إحدي هذه الناقلات. لكن الملصقات التحذيرية وحدها لم تعد تكفي لتفصح عن فداحة الخطر الذي تحمله، بعد تفاقم خطورة "التانكات" التي تُصنع بطريقة عشوائية غير مطابقة للمواصفات في ورشٍ غير مرخصة، ما يجعلها بمثابة قنابل موقوتة علي الطريق، بجانب ما تعانيه منظومة نقل هذه المواد من خللٍ يتمثل في ضعف تأهيل السائقين للقيادة الآمنة وعدم إلمامهم باشتراطات السلامة المهنية، غير تردي حالة الطرق والكباري التي تسير عليها هذه الشاحنات ما يجعلها عُرضة لحوادثَ تحصد الأرواح. أزمة منظومة نقل المواد الخَطرة تبدأ بالتصنيع العشوائي للصهاريج التي تحمل هذه المواد من مستودعات التخزين إلي محطات التفريغ أو مصانع الكيماويات. وهي الكارثة التي تكشّفت لنا خلال جولتنا بورش تصنيع وصيانة هذه الصهاريج في مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية. ساعتان ونصف هي المدة التي استغرقناها لنصل إلي شارع المعاهدة الذي يزدحم بالورش. أعداد كبيرة من شاحنات نقل المواد البترولية تصطف علي جانب الطريق، خلفها تتمدد وِرشٌ بمساحاتٍ متفاوتة في ساحات ترابية. لم أتخيّل مدي بدائية وخطورة الصناعة التي تتم هنا، قبل أن أقترب من إحدي هذه الورش ليصدمني المشهد. أطفالٌ لا تتعدي أعمارهم العشر سنوات يتحلّقون حول أحد الصهاريج قيد الصنع ليتموا عملية اللحام، بينما يتطاير الشرر الناتج عنها حولهم. "إحنا بنعلمهم الصَنعة عشان لما نعجّز يشيلوها عننا" يقول فاروق الزمزمي صاحب الورشة مبرراً، قبل أن يؤكد لنا أن جميع مراحل عملية تصنيع "التانكات" داخل الورشة تتم بشكلٍ يدوي. يتابع بفخر: هناك أكثر من 15 ورشة في السنبلاوين تصنع "تانكات" نقل جميع أنواع المواد الكيماوية والبترولية، فننتج صهاريج لحمل المازوت والبترول الخام ووقود التوربين الخاص بالطائرات، وأخري للبنزين والسولار والكلور والأحماض المختلفة التي تستخدمها المصانع مثل حمض الكبريتيك والصودا الكاوية. هذه الصهاريج نقوم بتوريدها إلي شركات نقل المواد البترولية الكبري وشركات التوزيع الحكومية التي تتعاقد معنا، من خلال مناقصات تطرحها متضمنة مواصفات التصنيع التي تريدها، إلا أن أغلب زبائننا من القطاع الخاص أو المقاولين العاملين في مجال نقل المواد الخطرة. مفارقةٌ تبدو فادحة بين حجم الصناعة التي يصفها فاروق والإمكانيات المتواضعة التي تحظي بها ورشته. ألمحُ أكواماً من الوحدات الحديدية تتناثر في أرجاء الورشة، أسأله عن الخامات التي تُستخدم لصنع الصهاريج، ليفاجأني: يفترض أن يُصنع التانك المخصص لنقل البنزين مثلا من ألواحٍ حديدية لا يقل سمكها عن خمسة مليمترات حتي تعطي "التانك" درجة عالية من المتانة، إلا أن بعض الزبائن خاصة المقاولين المتعاملين مع شركات البترول، يطلبون تنفيذه بسمكٍ أقل يصل إلي اثنين أو ثلاثة مليمترات، بحيث يقل وزن الحديد المستخدم من سبعة إلي ثلاثة أطنان للتانك الواحد، ما يخفض تكلفته علي الزبون لتصل إلي 30 ألف جنيه، بينما يفترض أن تتجاوز تكلفة التانك المطابق للمواصفات 50 ألفاً. لا تقتصر الكارثة التي أطلعني عليها فاروق علي ذلك، بل تمتد إلي أنواع أخري من الغش الذي تمارسه بعض الوِرش لتصنيع صهاريج نقل المواد الخَطِرة، باستخدام خامات أخري من الحديد الرديء غير المرن، والتلاعب في الحواجز المعدنية التي توضع داخل الصهريج أثناء تصنيعه لتوفير المادة الخام. "الصنايعية عايزين ياكلوا عيش" يبرر فاروق عدم التزام بعض هذه الورش بالمواصفات، متابعاً: ارتفاع أسعار الخامات ومستلزمات عملية التصنيع من أسلاك اللحام واسطوانات الأكسجين والغاز وقطع غيار "الصواريخ" وغيرها من آلات التقطيع التي تحتاجها الورشه، بخلاف أجرة الصنايعية الذين لا يقل عددهم في أي ورشة عن 15 عاملاً. أخرج من المكان ممتلئة بالدهشة ليكتمل ذهولي أمام الورشة المُجاورة، ألمحُ أحد الصهاريج المتهالكة مغطي بالصدأ تعلوه عبارة "مواد مُلتهبة". يبادرني السيد كشك صاحب الورشة وهو يُشير صوبه: بعض أصحاب تانكات المياه القديمة التي تحوّلت إلي خردة، يطلبون منا إعادة صيانتها وطلائها ليستخدموها بعد ذلك في نقل المواد البترولية. مشكلة هذه "التانكات" أنها تتعرض للصدأ الذي يُحدث ثقوباً بهيكلها الخارجي، وهذا يجعلها بحاجة لصيانة دائمة. يُخبرني السيد أن جميع الورش المُنتجة للصهاريج بالسنبلاوين غير مرخصة، بسبب تعنّت المسؤولين مع أصحاب هذه الورش علي حد قوله. مضيفاً: الحكومة لا تريد منحنا تراخيص وتعاملنا علي أننا خارجون عن القانون، كل شهر تُحرر ضدنا مخالفات وندفع مبالغ طائلة لتسديدها، رغم أننا خاطبنا مسؤولي مركز المدينة ووزارة الصناعة والتجارة لنحصل علي سجلات تجارية وصناعية، إلا أنهم يضعون اشتراطات للترخيص لا تتناسب مع إمكانياتنا، وفي كل مرة كانت طلباتنا تواجه بالرفض لأن صناعتنا بدائية علي حد قولهم. يبدو لافتاً الطريقة التي يتعاطي بها المسؤولون مع الأوضاع العشوائية لهذه الورش، باكتفائهم بتوقيع غرامات علي أصحابها، بدلاً من ضمها إلي مجمع صناعي يضمن إحكام الرقابة عليها ومتابعة مدي التزامها بتطبيق المواصفات. علي مَقربةٍ من صاحب الورشة ينهمك عمّال في صُنع "تانك" جديد. يخبرني شحاتة محمد أحد العمال أن أبعاد ومقاسات التانكات التي ينتجونها تتراوح بين عشرة إلي 16 متراً، أما سعتها الداخلية فتختلف حسب الحمولة التي يحتاجها الزبون والتي تبدأ من 17 ألفاً إلي 50 ألف لتر، بينما يستغرق تصنيع التانك عشرة أيام. أما خطوات التصنيع كما يشرح فتبدأ بعمل "اسطمبة" عبارة عن هيكل معدني يحمل الأبعاد الداخلية للتانك، نثبت عليها ألواح معدنية طولية من الصاج، نقوم بثنيها ولحامها يدوياً حتي تتخذ شكلاً اسطوانياً قبل أن نضع داخلها الحواجز المعدنية، ليكتمل الهيكل بإغلاقه من الجهتين وإضافة وحدة الشحن والتفريغ بإمداد مواسير نصنعها أيضاً داخل الورشة تنتهي بصمامات علي أحد جانبيه، ويبقي التشطيب والطلاء آخر مراحل إعداد التانك قبل رفعه علي الشاحنة، وتثبيت وحدات الإضاءة علي جانبيه. أحمل حصيلةَ مشاهداتي داخل وِرش التصنيع البدائية لأضعها علي طاولة المسؤولين والخبراء. حيث يؤكد الدكتور مصطفي كامل خبير السلامة والصحة المهنية بالمنشآت النفطية، أن منظومة نقل المواد الخطرة تدار عشوائياً دون اتباع الاحتياطات الواجب اتخاذها عند نقل هذه المواد، فالمشكلة تكمن في أن شركات توزيع المنتجات البترولية سواء التابعة للقطاع العام أو الخاص، ليس لديها الكم الكافي من الشاحنات الصهريجية، نظراً لتضاعف الاحتياج والاستهلاك المحلي للوقود، ما أدي إلي تزايد اعتمادها علي شركات النقل والمقاولين الذين يتولون هذه المهمّة من الباطن عن طريق مناقصات، وللأسف دائماً يلجأون إلي خفض نفقات التصنيع الخاصة بتانكات نقل هذه المواد علي حساب الجودة والمواصفات القياسية المحددة لها. يتابع: يفترض ألا تستلم الشركات هذه الصهاريج إلا بإخضاعها لاختبارات فنية تُجريها لجان معاينة لتحديد مدي مطابقتها للمواصفات القياسية وقياس مدي توافر اشتراطات الأمن الصناعي والسلامة المهنية والبيئية بها، وللتأكد من جاهزيتها لنقل المواد الخطِرة. إلا أن هذه المعاينة كثيراً ما تتم للأسف بشكلٍ صوري علي الورق فقط. ويجب الإشارة إلي أن التصنيع العشوائي غير الخاضع للرقابة الصناعية لتانكات نقل المواد البترولية كارثة بكل المقاييس، لأنه يحد من كفاءة وقدرة تحمّل التانك ومتانة هيكله الخارجي، فتعرضه لأي احتكاك أو صدمة علي الطريق يمكن أن يعرضه للثقب، وما يترتب عليه من تسرب قد يؤدي إلي كارثة بيئية، كما أن عملية اللحام الخاصة بالألواح المعدنية التي يُصنع منها التانك إذا لم تكن محكمة ومُتقنة تزيد هذه الخطورة. ويؤكد الدكتور مصطفي أن هناك مواصفات قياسية واشتراطات أمان محددة لتصنيع وترخيص الشاحنات الصهريجية، من حيث نوع وسُمك الحديد الذي يُشكّل هيكل التانك، والحواجز التي تثبت داخله، غير مواصفات صمامات الشحن والتفريغ، والأغطية التي يفترض أن تعمل بنظام الغلق الذاتي لمنع أي تسرب محتمل للمادة. كما يجب أن تُطلي تانكات نقل المواد الكيماوية خاصة الأحماض بمادة عازلة لمنع التفاعل بين المادة الحمضية والهيكل المعدني للصهريج. موضحاً أن عدم اتباع المواصفات الفنية الواجب توافرها في الحواجز الداخلية التي تقسّم الفُنطاس يمكن أن تؤدي إلي انفجاره. يضيف: هذه الموانع تعمل علي الحد من الارتجاج الذي يحدث للمادة السائلة أثناء نقلها وأثناء الشحن من المستودعات والتفريغ بالمحطات المختلفة، فاحتكاك جزيئات المنتج البترولي بسطح الصهريج يولّد شحنات كهربائية ساكنة تتراكم علي السطح، لذا يتم توصيل كابل أرضي بواسطة سلسلة معدنية لتفريغ هذه الشحنات، وللأسف تصنيع هذه السلاسل المعدنية بصورة بدائية يضاعف خطورة تعرّض الصهريج للانفجار جراء حدوث شرر كهربي واشتعال الشحنات الساكنة. كما يجب أن يُطلي التانك بدهانات مانعة للتآكل وعاكسة للحرارة. ولا تقتصر المواصفات علي صهريج النقل وحده، فهناك مواصفات قياسية خاصة بكابينة القيادة والشاسيه أو هيكل الشاحنة وإطاراتها. ويوضح ضياء الدين حمدي المدير التنفيذي لغرفة الصناعات الكيماوية باتحاد الصناعات، أن كل نوع من الكيماويات التي يتم نقلها يُفترض أن يخضع لأسلوب نقل معين. هذه المواد الكيماوية تكون إما غازات وأبخرة أو سوائل ومحاليل، وتُصنّف وفق الخواص الكيميائية لكلِ مادة، فهناك مواد ملتهبة وسريعة الاشتعال مثل البتروكيماويات، ومواد متفجّرة كالغازات الطبيعية التي تستخدم في الصناعة وأخطرها غاز البيوتان والبروبان، ومواد حارقة مثل الأحماض والقلويات التي تدخل في صناعة الأسمدة والمنظفات، غير الكيماويات السامة ومنها الكلور المُستخدم لتعقيم مياه الشرب، والذي يمكن أن يُحدث اختناقات حال تسربه من صهاريج النقل. متابعاً: عملية النقل والتداول الآمن لهذه المواد يفترض أن يحكمها نشرة سلامة تشمل 16 بنداً. هذه النشرة توضح المعلومات الأساسية عن المادة بدءاً من الاسم العلمي والاسم التجاري الخاص بها وجهة الإنتاج والتوزيع، وتتضمن أيضاً تحديد مدي خطورة المادة وتأثيراتها البيولوجية علي الإنسان والبيئة والحدود الآمنة وغير الآمنة لها، ودرجات الحرارة والحفظ الخاصة بها، والمواد الكيماوية التي يفترض إبعادها عنها لمنع حدوث أي تفاعل، والكيفية التي يمكن أن تشتعل بها هذه المادة، وإجراءات التعامل مع المواد الخطرة في حالات الطوارئ من طرق احتواء الانسكاب أو التسرب ووسائل إطفاء الحريق المناسبة التي تختلف من مادة لأخري، فاشتعال المواد البترولية مثلا يتم إطفاؤه بالبودرة وليس بالماء، غير أن بعض المواد الأخري تحتاج إلي طفايات رغوية. كما تحدد نشرة الإسعافات الأولية الواجب اتباعها في حالة حدوث إصابة جراء التعرض لهذه المادة. بينما يري الدكتور حسام فرحات رئيس شعبة المواد البترولية باتحاد الغرف التجارية أن الخلل الذي تعاني منه منظومة نقل المواد البترولية والمواد الخطِرة لا يقتصر علي حالة شاحنات النقل ومدي مطابقتها للمواصفات، بل يمتد إلي سائقي هذه الشاحنات ومدي تأهيلهم للقيادة الآمنة، فقانون المرور للأسف لا يُلزم السائقين بدورات السلامة المهنية، وكثير من شركات البترول تعتمد فقط علي أن السائق يحمل رخصة من الدرجة الأولي، غير عابئة بمدي إلمامه ومعرفته بطبيعة وخطورة المادة التي ينقلها، وكيفية التعامل معها في حالات الطوارئ. وللأسف نجد أن برامج التأهيل التي تضعها وزارة البترول صورية وغير فاعلة. ويؤكد أن كثيرا من الحوادث المروّعة التي تعرضت لها شاحنات نقل المواد الخطرة كانت بسبب عدم التزام السائقين بقواعد القيادة الآمنة. وتتمثل معظم هذه الخروقات في السرعة الزائدة والسير في درجات الحرارة المرتفعة، وفي ساعات الذروة داخل المناطق السكنية، غير الوقوف علي الطريق بحمولة. والأخطر من ذلك معدّلات تعاطي المواد المخدّرة في أوساط السائقين في ظل ضعف الرقابة المرورية علي الطرق. ويفترض أن تتوافر داخل كل شاحنة صهريجية أجهزة تتبع المسار GPS لمتابعة الشاحنة ومدي التزام السائق بالسرعة المقررة وخط السير المحدد له، هذا النظام تم تطبيقه علي نطاق ضيق في شركات معينة فقط. ولكن يجب التأكيد علي أن هذه الإجراءات تقلل احتمالية وقوع الحوادث ولا تمنعها، لأن هذه الشاحنات أيضاً تسير في منظومة طرق تعاني من مشكلاتٍ عدة تجعلها عُرضة للخطر. من جانبه يؤكد العقيد مصطفي إبراهيم رئيس غرفة العمليات بالإدارة العامة للمرور أن رجال المرور يرصدون مخالفات كثيرة لشاحنات نقل المواد البترولية بصفة خاصة، لعدم اتباع اشتراطات السلامة المهنية ولتجاوزات السائقين علي الطرق، إلا أن المشكلة الرئيسية كما يشير تكمن في أن خطورة المواد التي تحملها هذه الشاحنات تحد الجهات الأمنية بشكلٍ كبير في التعامل القانوني معها. متابعاً: نتعامل مع المخالفات بحزم ولكن لا يمكن لنا احتجاز الشاحنة في أي موقع شرطي وإعاقة السائق عن إتمام رحلته لما في ذلك من خطورةٍ بالغة علي المكان حال حدوث أي طارئ. يتابع: كما أن رجال المرور غير ملمين بالنواحي الفنية الخاصة بالتعامل مع هذه المواد، لذا نكتفي بتحرير المخالفة وإخطار الشركة المتولية عملية النقل بتجاوزات السائق. ويكشف عن طبيعة التلاعب الذي يتم لترخيص شاحنات نقل المواد البترولية: هناك اتفاقات ضمنية تتم بين بعض شركات النقل المعتمدة وكثير من المقاولين الذين يملكون صهاريج مُصنّعة بصورة عشوائية، لحصولهم علي خطابات من داخل الشركات تُفيد بأن هذه الصهاريج مصنّعة لديهم، وذلك للتحايل بغرض ترخيص الشاحنات داخل وحدات المرور.