يعيش الفلاح المصري حاليا أسوأ عصوره في بلد نهض تاريخياً علي الزراعة، وحباه الله جودة الأرض الزراعية ووهبه مياه نهر النيل، لكن يبدو أن سنوات الإهمال الطويلة التي عاشتها مصر قتلت آخر ما تبقي من هذا التاريخ العظيم، وتسلل المرض إلي آلاف الأفدنة التي تواجه شُح المياه النظيفة لتستعيض عنها بمياه الصرف الصحي لري المحاصيل، ومن بينها ألف فدان في محافظة المنوفية تزرع مختلف المحاصيل ومعها تزرع الموت في شكل أمراض مزمنة مثل الالتهاب الكبدي الوبائي والفشل الكلوي والسرطان. مزارعو القرية: عاوزين رخصة لتشغيل محطة رفع علي حسابنا ولن نكلف الدولة مليماً استغاثات أهالي قرية «ساحل الجوابر» التابعة لمركز الشهداء بمحافظة المنوفية (شمال القاهرة) - يُقدر تعدادهم بنحو 20 ألف نسمة - وصل مداها إلي رئاسة الحكومة والوزارات المعنية كافة، وعلي رأسها «الري» و«الزراعة»، لكن صمت المسؤولين وردودهم الصادمة، كانت كفيلة بتنامي الكارثة، واتساع رقعة الأرض التي تروي محاصيلها بمياه الصرف الصحي إلي ألف فدان. حجم المأساة البيئية والصحية دفع «آخرساعة» للتحرك سريعاً للمعاينة علي الطبيعة والاستماع إلي شكاوي المواطنين في القرية التي تروي ظمأ أرضها يومياً بجرعات مكثفة من المياه الملوثة، علي الرغم من مرور مياه النيل النظيفة علي بعد أمتار من هذه الأراضي الشاسعة. 90 دقيقة تقريباً هي عمر الرحلة التي قطعناها بسيارة المجلة لنصل في الصباح الباكر إلي قرية «ساحل الجوابر». أطفأ السائق محرك السيارة حين استقر بنا الحال أمام مقر «الجمعية التعاونية الزراعية». كان المشهد يبدو كأنه سرادق عزاء مفتوح علي نهر الشارع. اصطف العشرات من أبناء القرية من الفلاحين البسطاء علي كراس ولكلٍ شكواه بشأن المأساة، منهم من حملها مدوَّنة في ورقة وكثيرون جرت تفاصيلها علي شفافههم. توسطت جمعهم وبدأت أستمع جيداً. يقول رئيس الوحدة الزراعية بالقرية محسن حامد حجار إن مصدر مياه الصرف هو ما يسمي بمشروع الصرف الصحي المغطي، وقبل عشر سنوات كانت مياه الري العادية تصلنا من «ترعة السمسمية» الرافد الأساسي الذي كنا نعتمد عليه في ري أراضينا، لكن هذا الرافد لم يعد يصل إلينا، وبالتالي لم يعد أمامنا سوي مياه الصرف الصحي لاستخدامها بديلاً، مشيراً إلي أن ذلك تسبب في ارتفاع نسبة ملوحة الأرض وتلف المحاصيل وانحفاض إنتاجية الأرض، بخلاف انتشار الأمراض المزمنة بين أبناء القرية وعلي رأسها فيروس «سي» والفشل الكلوي والسرطان. رئيس مجلس إدارة الجمعية الزراعية نعيم المنوفي أكد ل«آخرساعة» أن البديل موجود لحل هذه المشكلة، وهو الاعتماد في الري علي مياه ترعة «الباجورية» التي تروي مساحات ضئيلة من أراضي القرية فقط بينما تروي بقية المساحات الأخري من مصرف «المجاري» وتُقدر بحوالي ألف فدان، لذا أرسلنا شكاوي عديدة إلي المسؤولين بدءاً من مديرية الري في شبين الكوم مروراً بمحافظ المنوفية ووزارتي الري والزراعة وصولاً إلي رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب. يتابع المنوفي: لم تجد شكاوانا نفعاً، فإما عدم الرد أو يكون الرد محبطاً وغير منطقي مثلما قيل لنا إن اعتمادنا علي الري من ترعة الباجورية مثلما اقترحنا - يؤثر سلباً علي حصة المياه المخصصة لأراض أخري في محافظتي كفر الشيخ والغربية. وهنا يكون السؤال: كيف تكون المنوفية محافظة ناقلة للمياه وكيف تعبر مياه النيل النظيفة ممثلة في ترعة الباجورية من أمام قريتنا ولا نستفيد منها بل ونضطر إلي ري أراضينا بمياه الصرف الصحي الملوثة! علي الوتيرة ذاتها، يقول مدير الجمعية جابر غنيم: قبل نحو عامين وإبان حكم جماعة «الإخوان» اقترحنا علي وزير الري وقتذاك إنشاء محطة رفع علي نفقة المزارعين لسحب المياه من ترعة الباجورية، وعلي الرغم من أننا نجحنا من خلال الجمعية في جمع مبلغ مائة ألف جنيه لشراء مساحة الأرض المطلوبة (4 قيراط) لإنشاء «باب مياه» ومد مجري مائي لنقل المياه إلي أراضينا عبر مواسير تعبر المصرف الملوث، لم تستجب أي جهة مسؤولة. من جهته أوضح نقيب الفلاحين بمحافظة المنوفية عادل جودة أن تنفيذ «باب المياه» الذي يطالب به فلاحو القرية لن يكلف الدولة أية أعباء مالية، وأبناء «ساحل الجوابر» ينتظرون فقط «جرة قلم» من رئيس الوزراء أو وزير الري بالموافقة علي ترخيص المحطة للبدء فوراً في نقل المياه العادية بشكل قانوني، موضحاً أنهم لا يستطيعون بدء تشغيل المحطة المقترحة إلا بعد الحصول علي موافقة وزارة الري التي يستتبعها موافقة وزارة الكهرباء لتشغيل المحطة. في السياق، ثمن مدير التعاون الزراعي بمركز الشهداء المهندس طايل عبدالفتاح تجربة أهالي قرية ساحل الجوابر، لوعيهم بخطورة المشكلة وعملهم علي جمع الأموال التي يتطلبها إنشاء «باب الباجورية» بالجهود الذاتية، خصوصاً أن الجمعية الزراعية بالقرية نجحت أيضاً في توفير مبلغ 88 ألف جنيه لبدء تنفيذ المحطة فور الحصول علي الموافقة بشكل رسمي من الجهات المعنية. صرخات الفلاحين البسطاء لم تتوقف بالشكوي طوال مدة تواجدنا وأثناء تحركنا لمعاينة المشكلة علي الأرض. كنا نتحرك بسيارة المجلة ومن خلفنا كانوا يهرولون لإرشادنا إلي الأماكن التي تكشف حجم مأساتهم لالتقاط صور لها. غالبية المزارعين البسطاء الذين حرصوا علي مرافقتنا أثناء تحركاتنا لا يمتلكون مساحات كبيرة من الأرض، بعضهم لا تزيد حيازته عن ثلاثة قراريط لكنها تمثل بالنسبة له مصدر الرزق الوحيد، ومن بين هؤلاء محمد عبدالعزيز الشهالي الذي وقف يندب حظه بسبب اضطراره سقي قراريطه الستة اليتيمة بمياه الصرف الصحي، ما أثر سلباً علي جودة أرضه وأضعف زرعته، مؤكداً أنه يعاني من مشاكل صحية في الكلي هو وابنه نتيجة تعامله المستمر منذ سنوات مع مياه الصرف الصحي. لا يختلف حال بقية المزارعين عن العم محمد الشهالي، فهذا آخر يلتقط طرف الحديث طارحاً شكواه: «بسبب مياه الصرف الفدان يتكلف أضعاف تكلفته العادية، والتربة بتبوظ نتيجة ارتفاع نسبة ملوحتها»، بينما آخر يقول: «نضطر إلي نزول المصرف عرايا لتسليك حركة المياه بسبب الشوائب العالقة وهذا يعرضنا لأمراض خطيرة.. ليس أمامنا حل آخر». يحدثنا مزارع آخر عن مصرف ساحل الجوابر الذي يعد هو الآخر رافداً للمياه الملوثة التي يضطر هو وزملاؤه إلي الاعتماد عليها في ري الأرض. ننتقل إلي هناك لتداهمنا الرائحة الكريهة وكمية كبيرة من مخلفات القمامة التي تسبح علي صفحة مياه الصرف في طريقها إلي أراض متاخمة بدت محاصيلها شاحبة ذابلة». بينما يصدمنا آخر بلفت انتباهنا إلي المصرف الممتد من مدينة الشهداء بما فيه من مخلفات وتلوث وتسحب منه ماكينات الرفع لري الأراضي، أما الكارثة الإضافية فهي تثبيت بعض الجهلاء ومنعدمي الضمير شباك في مياه المصرف لصيد الأسماك و»القراميط» وبيعها في مناطق أخري لا تعرف أن مصدرها الحقيقي مياه المجاري الملوثة والحاملة لعشرات الأمراض الخطيرة. الأهالي قالوا إن بلدتهم الوحيدة التي بها شبكة للصرف الصحي لكن القري المجاورة لا تتمتع بهذه الميزة، ما يضطر سكانها إلي نزح بالوعات الصرف في عربات مخصصة لهذا الغرض وإلقاء حمولاتها في المصرف الذي يروي أراضي «ساحل الجوابر»، وقالوا إن سائقي هذه العربات يمارسون هذه الكارثة ليلاً حتي لا يعترض طريقهم أحد. الصدفة البحتة خدمتنا في اصطياد أحد سائقي هذه العربات، حين كنا نسير بالسيارة بمحاذاة المصرف الرئيسي الممتد لمسافة عدة كيلومترات ليظهر أمامنا شخص يستقل جراراً زراعياً يسحب مقطورة صغيرة «فنطاس» ويلقي محتوياته من مياه المجاري في المصرف. علي الفور استل زميلي المصور سامح مسلم كاميرته والتقط عدة صور لعملية انتهاء واضحة، وحين اقتربنا من السائق وحاولت أن أعرف منه سبب قيامه بذلك، بدت عليه علامات التوتر والقلق وأدار محرك الجرار ولاذ بالفرار. انتهت رحلتنا وبينما كنا نغادر مدخل القرية لفتت أنظارنا حديقة مهملة تحمل اسم المهندس الدكتور عبدالهادي راضي (رحمه الله) أحد أبرز الشخصيات التي أنجبتها قرية ساحل الجوابر، لتكون تلك هي الصدمة الأخيرة قبل أن نغادر المكان، فالدكتور عبدالهادي راضي كان وزيراً للأشغال العامة والموارد المائية خلال الفترة من 14 أكتوبر 1993 إلي 26 نوفمبر 1996 في وزارتي عاطف صدقي وكمال الجنزوري الأولي، وحقق خلال حياته العديد من الإنجازات أبرزها استكمال وإتمام مشروعات مهمة مثل قناطر إسنا، وهويس نجع حمادي، ومحطة طلمبات الملاحة بسوهاج، ومحطة طلمبات السمسمية لتدعيم الري في مركز الشهداء بالمنوفية، وخمس محطات طلمبات عائمة لأسوان، ومحطات البحر الصعيدي بكفر الشيخ وسهل جنوب الحسينية وجنوب بورسعيد. الوزير النابغ المجتهد الذي رحل ومنحه رئيس الجمهورية «وشاح النيل» بعد وفاته تقديراً لجهوده في الوزارة، تواجه القرية التي ولد ونشأ فيها حالياً مشكلات عدة في نفس المجال الذي تخصص وبرع فيه.. مَنْ يصدق ذلك؟!