تصدرت «الموازنة العامة للدولة» حوارنا مع الخبير والعالم الاقتصادي، الدكتور عبدالخالق فاروق. مجرد التفكير في إجراء حوار حول تلك القضية الشائكة، كان يستدعي منا محاولة لفهم مصطلحات اقتصادية شديدة الصعوبة لنا وللكثيرين، محاولة الفهم تلك جعلت اكتشاف التصريحات الحكومية عن «إيجاد حلول مبتكرة لإصلاح الأزمات الاقتصادية» ، مجرد كلمات يحفظها مسئولون، ولا علاقة لها بالكارثة الحقيقية التي أصابت الاقتصاد المصري منذ السبعينيات وحتي الآن، من خلال مجموعات متتالية من القوانين التي استهدفت تغيير وتفكيك الاقتصاد المصري برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية ولصالح «إسرائيل». وكان خروج العديد من الهيئات والمؤسسات الاقتصادية للدولة خارج الموازنة العامة بداية للخسائر المتلاحقة التي أصابت تلك الهيئات نتيجة ضعف الرقابة والتفسخ وخلق أسعار وهمية وأرقام للمحاسبة تسمح برفع الأسعار وهي الفكرة الرهيبة التي نفذها يوسف بطرس غالي. العملية تمت في خطوات دقيقة بدأت بخروج تلك المؤسسات عام 1979 ثم لحقت بها الصناديق الخاصة ثم الخصخصة عام 1992 التي صاحبتها قضايا فساد وإفساد. الآن وقد حان وقت الإصلاح الحقيقي للاقتصاد المصري بمعالجة أصل المشكلة (لا فروعها فقط)، وجب علينا أن نغير اتجاهنا بما يتطلب من "القيادة" أن يتخذ قرارات سريعة وعاجلة نحو الاتجاه الصحيح. كان لتوالي أرقام الإقبال علي شراء شهادات الاستثمار الموجهة لمشروع القناة والتي تعدت حاجز ال60 مليار جنيه أمر شديد الأهمية يكشف عن وعي وإدراك الشعب المصري لحقيقة المرحلة التاريخية الهامة التي تمر بها البلاد وهو في نفس الوقت بمثابة رسالة عاجلة تقول "هل تدركون ماذا يمكن أن يفعل الشعب المصري إذا تخلص من كل القوانين السيئة والمكبلة والتي صدرت في فترات متعاقبة لتركيز دولة الفساد وسيطرة حكم الفرد وتفكيك الاقتصاد المصري لإضعافه وإغراقه في مشكلات تتفاقم يوما بعد يوم". وكانت الموازنة العامة للدولة وماحدث لها من فصل أكثر من 50 مؤسسة اقتصادية للدولة، وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، هي بداية الحوار مع الدكتور عبد الخالق فاروق. طالبته قبل أن يبدأ حديثه بأن يبسط لنا المعلومات حتي لا نصطدم بكلمات متخصصة تجعل بيننا وبين الفهم حجباً، فرد قائلاً: كما قال لورد كينز، إن الاقتصاد علم سهل لا ينبغ فيه إلا القليلون، وببساطة شديدة فالموازنة العامة للدولة تعني كل الأنشطة والإيرادات الخاصة للدولة والتي تصب في حساب واحد أو صندوق واحد كما كان الحال للموازنة المصرية قبل عام 1952 وكانت تتضمن كل جوانب الإنفاق الحكومي ومصادر الإيرادات كافة، وقد تعرضت الموازنة العامة لتغييرات جوهرية منذ عام 1963 بعد أن جري تقسيمها لموازنتين إحداهما للخدمات والثانية لقطاع الأعمال، ثم قسمت بعد هزيمة يونيو 1967 إلي خمس موازنات ثم جري دمجها في موازنة واحدة في عام 1973 وصدر القانون رقم 11 لسنة 1979 وهو ما يمكن أن أقول عنه أن عام 1979 سوف يؤرخ له في الاقتصاد المصري بأنه عام تفكيك اقتصاد الدولة المصرية بعد ما جري من فصل الهيئات الاقتصادية وشركات القطاع العام عن الموازنة العامة للدولة ونتج عن ذلك ولادة الكيان السري المعروف باسم الصناديق الخاصة. كيف حدث ذلك؟ - في نفس العام صدرت قوانين لأول مرة تنص بعض موادها علي إخراج إيرادات عامة ووضعها في صناديق خاصة مثل هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي صدر لها القانون 59 لسنة 1979 وتنص المادة 33 علي أن كل مبيعات الأراضي التي تحصل عليها الهيئة لا تذهب إلي الخزانة وإنما توضع في صندوق خاص وحساب يشرف عليه مجلس إدارة علي رأسه وزير الإسكان، وكذلك قانون هيئة التعمير والتنمية الزراعية رقم (143) لسنة 1981 وعشرات غيرها من القوانين والقرارات. قمت بالربط بين إخراج الهيئات الاقتصادية من الموازنة العامة وتفكيك الاقتصاد المصري فمن كان المستفيد من تلك القوانين؟ - في ذلك الوقت ادعي الرئيس السادات أن تلك الإجراءات والقوانين تفيد الهيئات الاقتصادية التي قام بفصلها عن طريق القوانين التي أصدرها لكي تعمل باقتصاد السوق وتحقق الأرباح وتنطلق في اقتصاد العرض والطلب، وكان خروج تلك المؤسسات عام 1979 والتي وصل عددها إلي 88 هيئة ومؤسسة هي مجرد خطوة أولي تبعها في عام 1992 تحول بعض الهيئات الاقتصادية إلي شركات مثل هيئة الصرف الصحي وشركات المياه وهذا التحول هو تمهيد لخصخصتها. وكيف استمر مسلسل تفكيك الاقتصاد المصري؟ - بدا ذلك واضحا من خلال تحول تلك الهيئات الاقتصادية سنة بعد أخري بدلا من أن تكون إضافة للموازنة العامة للدولة أصبحت عبئا عليها لأن معظم هذه الهيئات حقق خسائر فادحة ومن ضمنها هيئة السكك الحديدية التي لم تكتف بتحقيق الخسائر فقط بل أخذت في آخر سنة مالية من الخزانة العامة حوالي مليار ونصف المليار جنيه وهيئة أخري تحقق خسائر (هيئة الإذاعة والتليفزيون) التي حصلت علي حوالي مليار تقريبا من الخزانة العامة وهذه الخسائر هي مؤشر واضح لخطة تفكيك الاقتصاد المصري. لصالح من؟ - أراها وبوضوح أنها لصالح رؤية غربية أمريكية كانت تنشد بناء الاقتصاد المصري علي أسس ليس لها علاقة بالتخطيط. هل هناك علاقة بين خروج المؤسسات من الموازنة العامة وبين القطاع الزراعي في مصر؟ - بالطبع فالمقصود ببساطة شديدة هو خلق اقتصاد يهيمن عليه مجموعة محدودة من رجال أعمال تبدأ من إخراج المؤسسات خارج الموازنة العامة للدولة بعيدا عن الرقابة ثم إنشاء الصناديق الخاصة، ثم تحول الهيئات إلي شركات، ثم الخصخصة، وكان القطاع الزراعي من أهم القطاعات المطلوب تفكيكها وحدث ذلك مع «يوسف والي» الذي نجح في إنهاء سياسة الدورة الزراعية والتي تعني زراعة مساحات من القمح والقطن ثم تتبعها زراعات أخري من البرسيم مثلا، وانتهي عصر التخطيط الزراعي ليبدأ اقتصاد سوق يهيمن فيه رجال الأعمال علي كل ماله علاقة بالزراعة من إنتاج وتسويق ومستلزمات إنتاج. إلي أي مدي ينذر بالخطر استمرار خروج تلك الهيئات الاقتصادية خارج الموازنة العامة؟ - أصبح الأمر شديد الخطورة فهذه الهيئات تتحرك ماليا واقتصاديا خارج نطاق قدرة صانع السياسة المالية والاقتصادية وتتحول إلي جزر منعزلة.. خاصة بعد أن أنشئت صناديق خاصة تحول لها إيراداتها ويبلغ حجم الحركة المالية لتلك الصناديق ما يقرب من 300 مليار جنيه (في صورة إيرادات ومصروفات)، تتحرك بدون رابط ولا ضابط. وذلك هو الملف الذي لم يكن يقترب منه أحد قبل ثورة 25 يناير حتي سمح المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات تحت ضغط العاملين وقيادات الجهاز في بعض الإدارات بحصر جزئي للصناديق الخاصة الموجودة في بعض الإدارات في "الحساب الموحد في البنك المركزي". ماذا يعني ذلك الحساب؟ - كل حسابات الحكومة موجودة داخل حساب موحد في البنك المركزي، ووجود ذلك الحساب لا يعني دخوله في الموازنة العامة، والأخطر من ذلك كان تعديل قانون المحاسبة الحكومية رقم 136 لسنة 2006 الذي أعده يوسف بطرس غالي ووافق عليه مجلس الشعب عام 2006 حيث سمح بأن تنشئ الهيئات والمصالح الحكومية حسابات خاصة لصناديقها في البنوك الخاصة والتجارية، بعد موافقته، فأصبح بذلك هناك صناديق خارج نطاق البنك المركزي، وعندما تم حصر رصيد الصنادديق الخاصة داخل الحساب الموحد في البنك المركزي بلغت 47 مليار جنيه ولم يتم التوصل سوي لمبلغ 8 مليارات جنيه في حسابات البنوك التجارية، ولم يكتمل حصر باقي الصناديق لأنها تحتاج إلي قوة ونفوذ رئيس الجمهورية بإصدار قرار سيادي بتشكيل لجنة عليا مكونة من وزير المالية ومحافظ البنك المركزي ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات للكشف وفحص تلك الحسابات وخصوصا حسابات الأجهزة والوزارات والهيئات ذات النفوذ في النظام الإداري المصري مثل حساب وزارة الداخلية التي تمتلك ما لا يقل عن 13 حسابا وبعض المراقبين يقدرونها 26 حسابا ووزارة الخارجيه وبها من 5 إلي 6 حسابات ولو أجري حصر كامل لتلك الصناديق يمكن أن تتراوح ما بين 60 إلي 90 مليارا وللأسف كل هذه الأموال مهددة بالضياع. وما الحل، هل تري بادرة أمل؟ - لا أري أمامي سوي الرئيس السيسي، خاصة أنه لايوجد أمامه حل سوي أن ينجح وينقذ الدولة من حالة الضياع، ولكن لكي يحدث هذا لابد أن يري أمامه الحقائق واضحة فيما يتعلق بركائز دولة الفساد التي نشأت خلال 40 عاما وكانت مدعومة بقرارات وقوانين ولوائح تنفيذية تحمي الفساد ورجاله ولم تكن مجرد انحرافات لأشخاص. هل هناك أمل في الإصلاح؟ - نعم، ولابد من تفكيك دولة الفساد وليبدأ الرئيس السيسي في تطهير مؤسسات الدولة، باختيار أشخاص لم يلوثوا يوما ولم يتولوا مناصب في عهد مبارك، ثم تطهير الأجهزة الرقابية بما فيها هيئة الرقابة الإدارية، وتأتي المهمة الصعبة في مراجعة المنظومة القانونية الاقتصادية التي صدرت في مصر منذ عام 1979 وعددها حوالي 1400 قانون اقتصادي تقريبا، فمراجعة تلك القوانين سترفع المظلة التي تم ستر الفاسدين وأعمالهم بها وسنجد أنفسنا أمام مجموعة من القوانين العجيبة. وهل هناك إجراءات أخري؟ - لابد من إعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة، وعودة الهيئات الاقتصادية التي خرجت منها إليها مرة أخري، ولابد من إعادة النظر في فلسفة العمل الاقتصادي القائمة علي التحيز لرجال الأعمال، في سياسات الانفاق العام وضغط نفقات تشغيل الجهاز الحكومي من 33 مليار جنيه إلي أقل من 30 مليارا بترشيد 3 مليارات بدون التأثير علي أداء الحكومة، ويمكن تخفيض النفقات الحكومية من باب (مصروفات أخري) والتي تصرف في التعويضات والغرامات وتصل إلي أكثر من 30 مليار جنيه، كما لابد من ضم الصناديق والحسابات الخاصة للموازنة العامة للدولة، وإعادة هيكلة الدعم وتصحيح الأرقام. ماذا تعني بتصحيح الأرقام الخاصة بدعم المشتقات البترولية؟ - مثلا الرقم الذي يقال عن أن الحكومة تدعم المشتقات البترولية ب130 مليار جنيه غير صحيح، وهو دعم غير حقيقي بعد أن قام يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق، ووزير البترول الأسبق، سامح فهمي، بتلك الخدعة حتي يبرر ارتفاع الأسعار، فلقد قام بحساب ماتنتجه مصر من المشتقات البترولية بنفس السعر الذي تقوم باستيراد ما تحتاج إليه بالعملة الأجنبية، فمصر تنتج 63% من السولار و50% من البوتاجاز و65% من البنزين والباقي تقوم باستيراده. وهل هناك خطوات أخري لإصلاح الاقتصاد قابلة للتنفيذ؟ - إذا تم استرداد الأموال المنهوبة وإعادة نسبة الفروق في سعر الأراضي التي بيعت بمبالغ قليلة سيؤدي هذا إلي دخول مليارات لخزينة الدولة فهناك شركة كويتية أخذت من الدولة 30 ألف فدان لكي تستزرعها وباعت معظمها أراضي سكنية وكسبت حوالي 200 مليار، وكذلك ما جري في المنتجعات السكنية الفاخرة علي طريقي القاهرةالإسكندريةوالقاهرةالإسماعيلية وغيرهما والمقدر أن تسترد الدولة من عملية إعادة التقييم ما بين 26 مليارا إلي 40 مليار جنيه، إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك فإذا عادت تلك الأموال للدولة سيسترد الاقتصاد المصري عافيته وسيتحقق أمر آخر شديد الأهمية. فلسنا بحاجة إلي التسول من رجال الأعمال المصريين لصندوق تحيا مصر أو غيرها، فلنسترد حقنا منهم بالقانون وفقط، ويكفي أن تعلمي أن الفترة من عام 1980 إلي 2011 شهدت شراء المصريين لفيلات وشاليهات وقصور بنحو 415 مليار جنيه، كل هذه الأموال والاستثمارت يمكن أن تعود إذا ما عاد استقرار الوضع الاقتصادي مجدداً. وهل هناك إجراءات أخري؟ - عودة إيداعات المصريين في الخارج والتي تصل تقريبا - الآن - إلي 250 مليار دولار فكثير من العاملين في كل دول العالم لهم حسابات في الخارج قدرتها المخابرات الأمريكية في 2001 بعد أحداث سبتمبر ب 160 مليار دولار ولو شعر المصريون في الخارج بوجود سياسات جادة تهدف إلي التنمية لصالح مصر فستعود تلك الحسابات إلي الداخل لأن المصريين في الخارج ليسوا أقل وطنية ممن شاركوا في شراء شهادات الاستثمار في مشروع قناة السويس التي تعدت حاجز ال 60 مليارا في عشرة أيام.