أبعاد جديدة اتخذتها أعمال العنف المستمرة في ليبيا منذ عدة أشهر، فبعد أسبوعين من مواجهات أقل ما توصف به أنها بالغة العنف والشراسة في طرابلس وبني غازي، سقط أكثر من 200 قتيل، في ظل تحذيرات من اندلاع حرائق مرعبة في آبار البترول الواقعة علي أبواب العاصمة طرابلس، تزامناً مع أزمات انقطاع المياه والكهرباء وخدمات الإنترنت في أنحاء متعددة بالبلاد، ومع اختفاء السلطة المركزية عن المشهد أسرعت البلدان الغربية في إجلاء رعاياها بأسرع ما يمكن. ليبيا دخلت مرحلة من الصراع يهدد بلدان الجوار، فقد اختلطت فيه عوامل إقليمية ودولية، وتحولت البلاد إلي صومال كبير وغرقت في فوضي مدمرة هدد بها معمر القذافي قبل الإطاحة به علي يد متمردين مسلحين ساعدهم حلف شمال الأطلنطي الناتو بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعها فرنسا، سراً وعلانية، بضربات جوية وأسلحة متطورة، مما أسفر عن سقوط العاصمة في أيدي ميليشيات مسلحة مختلفة التوجهات والانتماءات القبلية. تتناحر تلك الجماعات للسيطرة علي العاصمة طرابلس، فيما جماعات أخري تتصارع في إقليم برقة (شرق ليبيا)، لا سيما في بني غازي وطبرق وأجدابيا ورأس لانوف حيث توجد أهم آبار البترول، ويبدو هذا الصراع كنتيجة طبيعية لوقوف دول خليجية، وأبرزها قطر، خلف الجماعات الإسلامية المسلحة حيث تدعمهم بأموال طائلة لشراء السلاح، بينما جماعات أخري محسوبة علي القوي المدنية ويقودها اللواء أركان حرب خليفة حفتر، ويساندها قوي أخري خليجية وعلي رأسها الإمارات، وهو ما يعيد للأذهان مشهد الصومال في التسعينات من القرن المنصرم، حيث تحالفت قوي متمردة من خلفيات أيديولوجية مختلفة للإطاحة بنظام حكم الرئيس «سياد بري» وبعد النجاح فيما كانوا يصبون إليه تقاتلوا فيما بينهم إلي أن تحولت الدولة ومؤسساتها لمجرد هياكل خاوية. وإذا كانت وسائل الإعلام تركز في نقل الحدث علي ما يجري في طرابلس وبني غازي فإن مدناً ومناطق أخري تتصارع في ضواحي العواصمة وفي إقليم فزان (جنوب ليبيا) لأسباب مجهولة، ولا يصل لوسائل الإعلام من تلك المعارك إلا أقل القليل نظراً لغياب خدمات الانترنت بشكل كامل عن تلك المناطق. الانتخابات التشريعية التي جرت في الخامس والعشرين من يونيو الماضي، علي وقع أصوات مدافع الهاون وقذائف الآر بي جيه وطلقات الكلاشينكوف، كانت أحد العوامل التي أدت للمشهد الحالي، حيث أظهرت النتائج تراجع شعبية الإسلاميين لأدني مستوياتها، وهو ما يفسر الكثير بشأن المعارك الدائرة في العاصمة طرابلس منذ الثالث عشر من يوينو الماضي، بهدف السيطرة علي المطار، حيث تتحصن ميلشيات منحدرة من مدينة الزنتان (تقع علي بعد 100كم جنوب غرب العاصمة وكان لمقاتليها دور كبير في الإطاحة بالقذافي)، داخل المطار وتدافع عنه أمام هجمات تقوم بها ميلشيات ذو توجهات إسلامية من مصراتة تلك المدينة الفاصلة بين شرق وغرب ليبيا والتي يٌحسب مقاتلوها علي التيار المدني، وأسفر القتال الدائر بينهما عن تدمير طائرات خطوط الطيران الليبية، حيث عجز طيارو الشركة عن الطيران بها في اللحظات الأخيرة نحو مالطا لإنقاذها من نيران المعارك. الأسوأ من هذا هو ذلك الحريق الهائل الذي اندلع، في السابع والعشرين من يوليو، في مخزن للمحروقات بمدينة البريقة (شرق ليبيا)، وكان وقوده 6 ملايين لتر من البنزين، ورغم السيطرة علي الحريق فإن نقص البنزين بالمدينة كان له نتائج كارثية، ولا يبدو هذا الاحتمال مخيفاً لمقاتلي الزنتان ومصراته، فمع سقوط القذافي استولي كل منهما علي مخزون ضخم من الأسلحة فضلاً عن كميات أخري من الأسلحة المتطورة التي ألقت بها المخابرات الفرنسية لمقاتلي الزنتان تحديداً، وهو ما يعني أن العاصمة طرابلس في طريقها للاختفاء من علي الخريطة بسبب إصرار كل طرف علي مواصلة القتال وعدم الاستماع لصوت العقل، وأدت صواريخهم الطائشة لمقتل 23 عاملاً مصرياً بعدما سقط صاروخ علي منزلهم بطريق الخطأ. فرنسا التي أقنع رئيسها السابق نيكولا ساركوزي المجتمع الدولي بضرورة التدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بالقذافي، قامت مع بريطانيا بعملية مشتركة بهدف إجلاء الرعايا الغربيين، بعدما قامت الولاياتالمتحدة، تحت غطاء حماية من مقاتلاتها الجوية، بإجلاء رعاياها براً من خلال طريق جنوب العاصمة يقود لتونس، ومازالت الرحلات مستمرة عبر هذا الطريق لإجلاء باقي الرعايا الغربيين، بينما أغلقت كل من ألمانيا وبلجيكا وهولندا سفاراتهم في طرابلس وطالبوا رعاياهم بمغادرة البلاد خوفاً من عمليات خطف، كما تعرضت سيارة مصفحة بريطانية لهجمات صاروخية أثناء تأمينها لعملية نقل رعايا. ومع انتقال الأوضاع من سيئ لأسوأ وتزايد أعمال القتل والخطف وغياب الأمن وترديد كل الأطراف المتناحرة هتاف «دم الشهداء لا يذهب هباء» تتجه ليبيا نحو فوضي مظلمة أدت إلي ندم كثيرين علي ما كانوا يعتبرونه ثورة كرامة، بل وبكاؤهم علي أيام معمر القذافي وذلك بحسب مراسل صحيفة لوموند الفرنسية اليومية من العاصمة طرابلس.