في حياة المصريين مهن كثيرة اختفت من المشهد بمرور الزمن، وكان «السقا» واحدا من بين تلك الوظائف المهمة التي ظهرت في عصر الخلفاء والولاة المسلمين في مصر، ووفق تعريف المؤرخين يعتبر السقا هو الشخص المسئول عن نقل المياه من الخزانات ونهر النيل إلي المساجد والمدارس والمنازل وأسبلة الشرب العامة، نظرا لعدم وصول المياه إلي هذه الأماكن.. ومع حلول شهر رمضان نتذكر «السقا» الذي ارتبط بأضرحة ومقامات أولياء الله الصالحين، ونلتقي بشيخ «السقائين» ليتحدث عن ذكرياته مع هذه المهنة المنقرضة.. ارتبطت هذه المهنة القديمة في الأذهان بعبارة «السقامات». وهو عنوان رواية شهيرة للكاتب الكبير الراحل يوسف السباعي، قام صلاح أبوسيف بتحويلها إلي فيلم سينمائي بنفس الاسم في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وهو الفيلم الذي ألقي بهالة ضوء حول هذه المهنة، وإن كانت الرواية قدمت السقا باعتباره شخصا مهموما بالموت ويحاول الهروب منه دائما. وهكذا ترسخت عبارة «السقامات» في أذهان المصريين وباتت تعبر عن واقع اختفاء هذه المهنة في مصر بشكل حقيقي وخاصة مع وصول المياه إلي كل المرافق والمنازل وبالتالي لم تعد هناك أهمية لوظيفة السقا. وفي الشهر الفضيل من كل عام يتذكر المصريون «السقا» ويعاودهم الحنين إلي هذا الزمن بملامحه التي اقتصرت علي مشاهد سينمائية قديمة أو سطور مكتوبة في نص إبداعي.. لكن يبدو أن مسألة «موت السقا» خبر كاذب، فمازال في مصر من يحرص علي هذه المهنة ويجاهد في سبيل علي قيد الحياة، ويبرز دوره في المساجد وخاصة في شهر الصوم. وبصورته القديمة مازال السقا أو صاحب «القربة» حي يرزق، يتحرك بحثا عن لقمة العيش في منطقة العتبة بوسط القاهرة وكذا أحياء مثل السيدة زينب والسيدة نفيسة والحسين والإمام الشافعي وأحمد بن طولون وعمرو بن العاص، والأخيرة مساجد مازال السقا يطرقها ويعيد معها رسم ملامح الزمن الجميل. ولذ أتجهت لسؤال أحد العاملين بمسجد السيدة زينب ينادونه هناك بلقب «عم الشحات» وهو الذي أرشدني لمكان إقامة السيد عبدالغني شيخ السقائين في إحدي الحارات الشعبية بمنطقة السيدة. عندما وصلنا لمنزله القديم لم نجده لكننا التقينا بنجله «بشندي».. وبسؤاله عن والده.. أشار إلي أن شهرته نابعة من حب الناس في مناطق الحسين وحتي السيدة نفيسة لدرجة أنهم ينادونه باسم عم عبدالغني أو أبوبشندي.. وعرفنا خلال توصيل الابن لمكان والده أنه ورث مهنة السقا عن والده رغم أنه يعمل في الصباح موظفا بسيطا بإحدي الهيئات الحكومية.. وكم كانت سعادتي بلقاء شيخ السقائين مرة أخري وبردله الجميل وأنا أسلم عليه وهو يقول «ربنا يطول لنا في عمرك ونشوفك في كل رمضان».. وأقام حنفية يطلقون عليها حنفية الكوبانية.. بدأ عم أبوبشندي يتحدث ويقول: السقا الذي كان يروي ظمأ الجميع كان أحد أفراد العائلات المصرية حيث كان يقوم بتوصيل المياه للشقق داخل المنازل والعمارات. ويشهد شيخ السقائين الذي تخطي عمره الستين عاما.. ثم عاد ليقول: ياه يا ابني هوه فين السقا الذي تغني له مطربو عصره وخصوصا سيد درويش قائلا: «يعوض الله.. يهون الله علي السقايين دول شقيانين».. وللعلم كان السقا سلطان زمانه.. ولكن خلاص كانت أيام راحت وكان السقا.. ففي الماضي كان يوجد علي رأس كل حي بإحياء القاهرة حنفية مياه حكومي وكانوا بيعينوا عليها أقدم سقا في كل منطقة وكانوا يطلقون عليه أيضا شيخ السقائين. وكان السقا يقف في الدور مع بعض السيدات الفقيرات اللاتي لا يستطعن ترتيب القربة.. أو الذين كانوا يعملون في البيوت.. ونملأ القرب ونحملها علي عربة يد صغيرة أو العربة الكارو.. ونمر علي البيوت المختصين بها.. حيث كان كل حي به «السقائون» المختصون به، ولا يتعدي سقا علي آخر.. ويتوقف أبوبشندي السقا للحظة.. ثم يعود ويقول أحنا بنجيب القربة من الصعيد وخصوصا سوهاج والمنيا وقنا لأنها بتتعمل من جلد ماعز مدبوغ.. وكان يتم خياطتها وبعدها يتم تركيب «بزبوز».. وكان يضاف للقربة جزء يطلق عليه «السطيح» وكان يصنع أيضا من جلود الماعز ويلبسه السقا ليغطي منطقة الظهر والصدر ويقيه من البلل. وخلال الحديث ظل الابن بشندي السقا يحث والده علي ذكر أسماء المشاهير الذين شربوا من يده.. وبالفعل أعاد شيخ السقائين الذي طلب مناداته هذه المرة بلقب «أبووردة».. وعرفنا منه أنها كانت تعمل ساقية في مسجد السيدة نفيسة ولكنها توقفت بسبب تعرضها لأزمة صحية.. وعاد ليقول: لقد شرب من يدي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وأيضا الرئيس الراحل أنور السادات والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.. أثناء زياراتهم لسيدنا الحسين.. ولا يغيب عني أن الرئيس عبدالناصر أطلق علي لقب «باش سقا»..