آباء وأمهات.. وضعتهم ظروفهم القاسية في قفص الاتهام دون جريمة اقترفوها، تركوا أبناءهم فريسة سهلة، وصيدا ثمينا بين أيدي من لا يرحم، لذة الحصول علي المال أنست هؤلاء "الشياطين" كافة معاني الرحمة والرفق بالأطفال، أغفلوا أنهم ملائكة لا يدرون أو يفهمون شيئاً، أصبح جمع المال هدفهم الوحيد حتي ولو علي جثث أطفال غيرهم ممن أودعوهم لديهم "أمانة" في "دور الحضانة". "الحضانة".. ذلك الملاذ الآمن الذي يمكنك أن تترك فيه أطفالك، وأنت مطمئن العقل والقلب، لم يعد كذلك، فقد باتت "الحضانة" اسماً علي غير مسمي، ذلك واقع شاهدناه بأعيننا خلال جولتنا داخل بعض حضانات المناطق الشعبية، التي لا تمنح لطفلك إلا الإهمال والمرض والجهل وسوء المعاملة. وداعاً تلك الصورة الذهنية التي يرسمها الجميع للحضانة بأنها ذلك المكان الذي يمنحك وطفلك الشعور بالراحة النفسية والأمان فور دخوله وسط مشاهد للهو الأطفال وبعضهم يلونون ويرسمون، وآخرون يلعبون ويغنون، ولكن بمجرد أن تخطو قدماك هذا المكان فعليك التخلي عن كل أحلامك وكل ما شاهدته من قبل فكل ما سبق "كلام أفلام"، ليس له واقع هنا في حضانات الشعب. رائحة العفن تخرج من كل ركن بالمكان حيث القمامة والمجاري، في الشوارع المحيطة، تكدس الأطفال يجعل معظمهم واقفاً أو جالساً علي الأرض التي لا يكسوها شيئاً إلا التراب، ملابس الأطفال مهلهلة توحي بفقر المكان الذي يعيشون به (منطقة القلج)، وضيق حال أسرهم العاملة، وحالة من ترعاهم تجعلك تشفق عليها (دبلوم ولديها طفلان). جريمة ترتكب علي مرأي ومسمع من الجميع دون أن يتدخل أحد، صاحب عقار يقرر فجأة أن يصبح مربيا ومعلما ويحول الدور الأرضي في منزله إلي حضانة كبيرة مساحتها 60 مترا تسع لأكثر من 30 طفلا وطفلة، أعمارهم تتراوح بين الشهور، وال4 سنوات، لا يقدم لهم داخل هذا الصرح العظيم إلا الأمراض والأوبئة وسوء التربية، لم يسمع القائمون علي هذا المكان عن الوجبات المتزامنة التي تقدم للأطفال، ولم يخطر لهم أن يعلموهم شيئاً إلا الألفاظ البذيئة، فمن المسموح لساكني الحضانة أن يخرجوا للتنزه نصف ساعة يومياً في "حوش البيت" وطبعاً تحت إشراف المربية -. هذه الحالة ليست فردية وما شاهدناه في عدد من الحضانات بتلك المناطق " القلج، الخصوص، المرج" يؤكد للجميع أن من يترك ابنه في تلك الأماكن فعليه أن يتأكد أن ولده سيعود يوماً ما مكسوراً أو مخنوقاً أو مقتولاً. أهل الثقة "أمينة" - اسم علي مُسمي-، تعمل بإحدي حضانات المرج "دادة" وتقوم أحياناً بأعمال المربية وأحياناً أخري تشرح للأطفال وعندما يضيق الحال تقوم بالإشراف عليهم، هذه السيدة "بتاعة كله" حسبما قالت-: "أنا بفضل الله ماسكة الحضانة دي من سنة ومفيش أي حد اشتكي مني، أنا ساعات بأكل العيال وكمان بغيرلهم، وكمان ممكن أصحح لهم الواجب، ما أنا بعرف أقرا ومعايا الإعدادية". واستطردت: "وكمان أهل المنطقة هنا عارفني كويس ولولا إني موجودة كانوا خدوا عيالهم من زمان، هما مستأمنني وكمان بيثقوا فيا، والحمد لله بيشوفوني بقرشين حلوين كل أول شهر لأن المرتب 800 جنيه وده يادوب بيكفيني". "أمينة" حدثتنا عن مُعلمة الحضانة، التي رفضت الحديث إلينا، وقالت: "مس أسماء شغالة مدرسة ابتدائي، وفي الأجازة بتشتغل هنا وكمان بتدي دروس خصوصية لكل العيال واللي مش بياخد معاها بتستقصدوه وتضربه ولو الأم اشتكت تقولها أصل ابنك مستواه ضعيف ولازم أعلمه". بيزنس أطفال الواسطة والمحسوبية لم تترك مكاناً إلا وتخللته حتي دور رعاية الأطفال فالقائمون عليها يفرقون بين الأطفال وبعضهم، وكذلك المربيات، الأمر الذي جعلنا نتحدث لإحدي الأمهات التي أتت لأخذ ابنتها بعد انتهاء اليوم. "أم سلمي"، تعمل بإحدي شركات الكهرباء قالت: "كنت أصطحب ابنتي معي للعمل يومياً خوفاً عليها من الحضانات خاصة، وأن المنطقة التي أسكن بها غير آمنة وخشيت عليها مما سيحدث لها بالحضانة ولكن وجدت أنها علي وشك دخول المدرسة ولا تعرف القراءة والكتابة ولم تتعلم شيئاً، فذهبت للحضانة وطلبت من المدرسة أن تأتي المنزل 3 أيام في الأسبوع ولكنها رفضت إلا بعد أن أتعاقد 3 أشهر مع الحضانة ومن ثم تستطيع القدوم للمنزل خوفاً من مالكها لأنه يتهمها باستقطاب أولياء الأمور". أضافت، أن اشتراك الحضانة شهرياً 500 جنيه لمن تجاوز عمره السنتين ومعلمتها تأخذ 100 جنيه أسبوعياً. خطورة الأمر لا تكمن في المال إطلاقاً، ولا في السياسة التعليمية والتربوية، لأن مصر تحتاج سنوات للخروج من تلك الأزمات، والكارثة التي تهدد أطفال الحضانات هي الإهمال الذي أودي بحياة كثيرين وأصاب بعضهم بإعاقة وأحياناً أمراض مزمنة. ابني مات مضت ثلاثة أشهر علي وضع طفلها الأول بعد زواج دام لأكثر من عامين ونصف حمدت الله علي نعمته وأنجزت ما بوسعها مع وليدها خلال الأشهر الأولي، وحان الوقت للعودة مجدداً لعملها فالأجازة لن تتعدي ال90 يوماً، اضطرت الأم المنهكة لترك ابنها "أ.ج" في حضانة بالقرب من منزلها بالحلمية، وشددت الأم علي القائمين هناك برعاية طفلها، وأوصتهم به خيراً لصغر سنه وأودعتهم حقيبته التي تحتوي علي غذائه وملبسه، ومضي خمسة أسابيع والأم تشعر بحالة من الارتياح رغم تركها طفلها، فهذه الدار تتمتع بخدمة فائقة فضلاً عن أنها تدفع 250 جنيها أسبوعياً. مرت الأيام، وحدث ما لم تكن تتوقعه الأم، وصلت الحضانة متأخرة علي طفلها ساعة واحدة فوجدته جثة هامدة!!. ابني مات ملحقتش افرح بيه، ولا اشوفه وهو بيكبر" هذه الكلمات فجرت دموع هناء والدة الطفل، وروت ما حدث بالتفصيل بعد اعتراف صاحبة الدار بالواقعة، وقالت: "اتصلت بمس مريم الساعة 3 العصر، وقلت لها إني هتأخر ساعة عن ميعاد قفل الحضانة لأن عندي مشوار مهم قالت لي مفيش مشكلة أنا هقعد مع الولد لحد ما توصلي، وفعلاً قعدت مع ابني لوحده في الحضانة وطبعاً مقعدتش فاضية كانت بتعمل الغداء لزوجها، وابني نايم في الصالة مش في غرفة الأطفال، سابته لوحده وطلعت شقتها الساعة دي، واتغدت، وخلصت، ونزلت فاكتشفت إن الغاز معبأ الشقة، معرفتش تتصرف، ولقت الولد مخنوق فتحت الشبابيك واستنتي ع الباب، وقالت لي ابنك يا دوب واخد الرضعة ونام متصحيهوش، وأنا بسذاجة أخدت الولد، واكتشفت إنه مات في البيت. حالة هذا الطفل ليست الوحيدة، فهناك عشرات الأطفال يفقدون ضحية إهمال من يرعاهم ، وحالات الإصابة لا تقتصر علي الأطفال فقط، فما شاهدته "سماح" والدة الطفلة نغم جعلها تبرح معلمتها ضرباً وتكسر ذراعها، ففور وصولها للحضانة شاهدت الأم المربية وهي تأمر الأطفال جميعاً بالوقوف صفاً واحداً وتقوم بإطعام كل طفل ملعقة واحدة من الوجبة ومن يطلب واحدة أخري تنهره وتضربه، لم تشعر الأم بنفسها إلا بعد أن كسرت ذراع تلك المربية. الرقابة.. مسئولية رغم أن الحوادث التي تقع في الحضانات لا حصر لها ولا عدد، إلا أن المساواة بينهم ليست عادلة، فبعضها يعمل وفق القانون وكثير منها لا يلتزم، وهذا يرجع إلي ارتفاع عدد الحضانات خاصة في القاهرة مما يعوق الرقابة عليها. حماية أطفالنا ضرورة وواجب علينا يجب ألا نغفله، هذا ما أكدته الدكتورة وفاء الجندي أستاذ علم الاجتماع ومدير مركز أمل للتأهيل التربوي، وشددت علي ضرورة إيجاد بيئة آمنة للأطفال قبل إسكانهم أي حضانة. وقالت الجندي: "علينا الاهتمام بدور الأسرة وواجباتها تجاه الأطفال وفرض القوانين لمحاسبة الأسرة عند إخلالها بدورها في تربية أبنائها ورعايتهم لأنه في بعض الأحيان يقع اللوم عليهم وحدهم ". وأكدت علي ضرورة بث برامج لتوعية الأسر بتربية الأطفال، وكذلك خضوع العاملين بدور الحضانة لاختبارات وتدريبات قبل البدء في التعامل مع الأطفال. وفي السياق ذاته طالبت الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع، الوزارة بعدم إصدار تراخيص لأي حضانة إلا بعد التأكد من توافر الاشتراطات اللازمة سواء من الناحية الصحية أو الإمكانيات الفنية، مؤكدة أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي فُرضت علي المواطن المصري وحدها تجعله يلجأ لمثل هذه الحضانات. وأضافت: "لابد من مراجعة كافة تراخيص الحضانات علي مستوي الجمهورية خاصة وأن معظمها تقام بدون ترخيص". وبعد تكرار حوادث الحضانات التي نسمع عنها بين حين وآخر، شكلت مؤخراً وزارة التضامن الاجتماعي، لجنة لسحب تراخيص إحدي حضانات بحي الهرم، التي تسبب الإهمال بها، في وفاة رضيع متأثرا بحروق في ذراعه ونصفه السفلي.