قبل أن يتم تشييع جثمان الرئيس عبدالناصر إلي مثواه الأخير.. بدأت الصراعات علي كرسي الرئاسة.. كاميرات التليفزيون المصري ركزت خلال مسيرة الجنازة علي زكريا محيي الدين أثناء مشاركته في تشييع الجثمان، كما أفردت صحيفة الأهرام الصادرة في اليوم التالي خبرا بارزا ومستقلا للنعي الذي رثا به زكريا محيي الدين الرئيس عبدالناصر خلافا لما حظي به باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين.. وكان محمد حسنين هيكل وقتها وزيرا للإعلام والمسئول عن التليفزيون، كما كان رئيسا لتحرير جريدة الأهرام. ويكشف سامي شرف وزير شئون الرئاسة في هذه الحلقة جانبا من الصراع الذي جري بين المتصارعين علي كرسي الرئاسة بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر.. كما نواصل في هذه الحلقة بقية شهادة خالد عبدالناصر لما جري في الليلة الأخيرة للرئيس عبدالناصر وما تلاها من أحداث.. وإلي التفاصيل.. من عند فندق هيلتون أخذت سيارة إلي الجامع الذي أصبح فيما بعد معروفا باسم جامع جمال عبدالناصر عبر طريق صلاح سالم بصحبة صديقي محمود الجيار، وصلنا بصعوبة بالغة قبل صلاة الجنازة، دخلنا إلي حرم الجامع من ناحية الفنية العسكرية.. كانت البوابة مغلقة، وبدأت الجماهير المحتشدة تدرك أن أولاد عبدالناصر قد وصلوا ثم تحركوا باتجاهنا، وبسرعة أصدر الفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة الذي كان يستند بظهره إلي جدار الجامع الخارجي أوامره بعمل كردون من قوات الصاعقة من حولي حرصا علي حياتي من فيض عواطف الحشود.. رأيت عمي عز العرب يبكي بهستيريا ويضع علي طريقة أهل الصعيد في إبداء الحزن التراب علي رأسه ويقوم بتمزيق الستائر. عاشت أمي سنوات طويلة بعدرحيل أبي - توفاها الله في 25 مارس 1990 طوال هذه السنوات لم تخلع ملابس الحداد السوداء علي جمال عبدالناصر، ألححنا عليها كثيرا لارتداء ملابس ملونة، وأحيانا كنا نبادر بشراء الملابس من أجلها ونردد علي مسامعها الحكمة المصرية الشهيرة: الحزن في القلب، غير أنها لم تقتنع أبدا، وكان أملها الوحيد أن تدفن بجواره ذات يوم. مدفن عبدالناصر المدفن عبارة عن حجرتين، دفن أبي في إحداهما، وفيما بعد دفنت أمي في الثانية.. يومها أخذت تطالب وسط موجات من البكاء: لازم أدفن معاه.. في حجرة الدفن رأيت أشرف مروان ومحمد الجيار، ربما كان هناك آخرون لا أتذكرهم الآن.. وفي غمرة الحزن قال أحد ضباط الحرس الجمهوري: ياريت أنا اللي مت.. وما إن انتهت إجراءات الدفن حتي أخذ بعض العمال يسدون القبر بالطوب.. وكانت تلك أسوأ لحظة في حياتي. شاهد علي زواجي 2 ديسمبر 1971.. في هذا اليوم عقد قراني علي زوجتي داليا فهمي في بيت منشية البكري، في حضور رئيس الجمهورية الجديد أنور السادات وعدد كبير من الوزراء وكبار المسئولين.. حرصت يومها علي دعوة أساتذتي في كلية الهندسة من جامعة القاهرة.. السادات شهد علي وثيقة الزواج في صالون جمال عبدالناصر، كل شيء يحيطه جلال الغياب.. الملابس سوداء، وراعي الحضور إلي أقصي حد ممكن ضبط التصرفات المعتادة في مثل هذه المناسبات حرصا علي مشاعر أسرتي.. نزلت أمي من الدور الثاني، سلمت علي الضيوف.. وبدا أنها قد تقبلت التهاني كما هو متبع في الأفراح، غير أنها كانت في دنيا أخري مع رجل آخر.. فجأة أخذت تنظر حولها كمن تبحث عن شخص بعينه وتتوقع أن يكون علي رأس الحفل السعيد.. ثم أخذت تسأل: جمال فين.. الرئيس فين؟.. أمي سيدة مصرية بسيطة تؤمن بالله، وتصلي الفروض في مواقيتها، وتزور أولياء الله الصالحين، وفي الملمات تلجأ لمقام سيدنا الحسين، وتدرك أن هذه إرادة الله وحكمته، غير أنها في هذه المناسبة العائلية افتقدت وجود رفيق حياتها، غابت كل الوجوه، وحضرت صورته، وحدها في القلب.. لعشر دقائق كاملة أخذت تسأل.. والدموع في عيوننا، ولا مجيب.. ماتت أمي منذ أربعة وعشرين عاما، وهناك في أمتنا بأوضاعها المحزنة الحالية من لايزال يسأل بإلحاح: جمال فين.. الريس فين؟ ترتيبات الخلافة لكن كيف جرت ترتيبات الخلافة.. أو ترتيبات نقل السلطة بعد جمال عبدالناصر؟ وما هي كواليس الصراع علي كرسي الحكم؟.. وكيف انتهت الأمور في النهاية إلي صالح أنور السادات؟ يكشف سامي شرف وزير شئون الرئاسة ماجري وراء الكواليس.. يقول: انتهت مراسم الجنازة، وبدأت الوفود العربية والأجنبية التي جاءت لتقديم واجب العزاء والمشاركة في تشييع الجنازة، في مغادرة القاهرة، وكان في طليعة المغادرين الرئيس جعفر نميري مما عكس رغبته في أن ينأي بنفسه عن محاولات إقحامه في الشئون الداخلية المصرية علي غير ما يرضي، خاصة أنه قد جرت محاولة جديدة لترتيب لقاء بينه وبين عبداللطيف البغدادي في منزل الأخير في مدينة نصر بواسطة أمين شاكر عن طريق وزير الإعلام السوداني.. وبالمناسبة كانت المخابرات العامة قد قدمت تقريرا يفيد أن هناك شكوكا تحيط بالوزير السوداني من أنه علي صلة بالمخابرات المركزية الأمريكية، ولكن الرئيس نميري اعتذر وقال إنه لم يطلب من وزير إعلامه ترتيب هذا اللقاء وبالتالي لم يتم اللقاء. كما اتصل حسن التهامي بعبد اللطيف البغدادي وتناقشا في الأوضاع، حيث اتهم التهامي كلا من شعراوي جمعة وأمين هويدي وعلي صبري والفريق محمد فوزي وسامي شرف بأنهم يتآمرون للاستيلاء علي السلطة، وقد أبلغ البغدادي أنور السادات بما تم في هذه المقابلة. ومع مغادرة الوفود عادت قضية ترتيب أوضاع ما بعد عبدالناصر تفرض نفسها علي المؤسسات السياسية والدستورية في الدولة، ولم تكن هناك أدني فرصة لإسقاط أي إيماءة أو كلمة يمكن أن تصدر عن فرد أو مؤسسة في هذه الظروف الدقيقة والحساسة. كاميرات التليفزيون وعلي سبيل المثال لاحظ المسئولون علي اختلاف مواقعهم، كما لاحظ الرأي العام المصري أيضا، أن كاميرات التليفزيون المصري كانت تركز بشكل ظاهر خلال مسيرة الجنازة علي زكريا محيي الدين أثناء مشاركته في تشييع الجنازة، كما أفردت صحيفة «الأهرام» الصادرة في اليوم التالي خبرا بارزا ومستقلا للنعي الذي رثا به زكريا محيي الدين الرئيس جمال عبدالناصر خلافا لما حظي به باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين، وبالطبع فقد أعاد ذلك إلي الذاكرة أن زكريا محيي الدين هو الشخص الذي اختاره الرئيس الراحل عبدالناصر عندما قرر التنحي عن السلطة يوم 9 يونيو 1967، مما أعطي الواقعتين دلالات خاصة. وكان محمد حسنين هيكل وزيرا للإعلام والمسئول عن التليفزيون، كما كان رئيسا لتحرير جريدة الأهرام، وقد أمر بإجراء تحقيق في التليفزيون عن هذه الواقعة ولم يسفر التحقيق عن شيء يذكر، وأفاد بأنه لم يكن موجودا في مبني التليفزيون أثناء تشييع الجنازة، وأن الكاميرات كانت تركز علي خالد عبدالناصر الذي كان يسير بجوار زكريا محيي الدين، كما أن ما صدر في الأهرام كان من مسئولية رئيس التحرير المناوب في ذلك اليوم، وتم اعتبار الواقعتين مجرد تصرفات فردية غير مقصودة ولا يجب أن نقف عندها كثيرا. مذكرة للسادات ومع الاتجاه لاتخاذ قرارات مصيرية لانتقال السلطة وفقا للدستور، جرت بعض التحركات التي يصعب اعتبارها فردية. ففي اليوم التالي لتشييع جنازة عبدالناصر أي يوم 2 أكتوبر 1970 اجتمع كل من: عبد اللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين في منزل الأول! لمناقشة الوضع بعد رحيل عبدالناصر، والتقت آراؤهم علي طلب الاجتماع بأنور السادات المرشح للخلافة وتسليمه مذكرة قاموا بكتابتها وتعبر عن رؤيتهم للمستقبل، وقد اتفقوا علي تفويض عبداللطيف البغدادي في الاتصال بالسادات لتحديد موعد للاجتماع بهم، لكن أنور السادات رفض فكرة الاجتماع بهم كمجموعة أو بصفتهم أعضاء في مجلس قيادة الثورة حيث سيعتبر ذلك إحياء لوضع انتهي، كما أنه سبق حل هذا المجلس من أكثر من عشر سنوات مضت، وطلب من عبداللطيف البغدادي أن يحضر لمقابلته منفردا وبصفته الشخصية لو أراد ذلك، فلم يوافقوا علي ما قاله أنور السادات، بل بعثوا برسالة للسادات مباشرة في قصر العروبة قبل موعد الاجتماع بيوم حتي يكون السادات علي علم بما يرون قبل لقائهم به.. وكان نصها كالتالي: «السيد الأخ أنور السادات الرئيس المؤقت للجمهورية».. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد.. «فلتكن منكم أمة يدعون إلي الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون». في هذه الأيام العصيبة التي يجتازها وطننا، وفي هذه المحنة القاسية التي تمليها روح التضحية والبذل وإنكار الذات وحكمة يمليها الضمير الحي والعقل الشجاع. في هذه الأيام وقد خلف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رحمه الله عبئا ثقيلا تنوء به العصبة أولو القوة من الرجال، وكان يقوم به وحده.. وفي هذا الوقت الذي يحتل فيه العدو الصهيوني أجزاء غالية من أرض الوطن نصر حيالها أن تتحرر وتتطهر.. وفي هذا الوقت الذي تتجمع فيه مشاكل وتيارات عديدة في الداخل والخارج أنتم تعلمونها جيدا. في هذا الوقت العصيب الخطر، وفي هذه المحنة القاسية لم يكن ضميرنا الوطني نحن الباقين من أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو الذين اشتركوا في تسليم أمانة قيادة الثورة في شكل دستوري عام 1956 إلي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، لم يكن ضميرنا الوطني يسمح لنا أن نقف متفرجين في لا مبالاة لما يحدث أو ما ينتظر أن يحدث للوطن في محنته، ولم يكن حبنا العظيم لأمتنا وشعبنا ليطاوعنا أن نحتجم عن محاولة المساهمة بالتفكير أو الجهد أو التضحيات التي يجب أن نعبيء لها طاقة كل فرد من أبناء الشعب.