أعلن قرار »التنحي« عن الرئاسة واختار زكريا محيي الدين خليفة له دون أن يخطره محيي الدين سمع بقرار اختياره »رئيسا« من التليفزيون.. ورفضه وأبلغ عبدالناصر بأنه لا يستطيع التنحي والجيش محاصر في سيناء في مساء يوم التاسع من يونيو أي بعد بدء العدوان الإسرائيلي علي مصر بأربعة أيام وهو اليوم التالي لقبول مصر وقف إطلاق النار، ظهر عبدالناصر علي شاشة التليفزيون وأعلن بصورة أثارت ذعر الملايين من المصريين أنه تخلي عن منصب الرئاسة لزكريا محيي الدين.. وللحظات أصيب سامعوه بحالة من الذهول أعجزتهم عن أي رد فعل.. لكن عندما بدأ مفعول كلماته يحدث أثره انفجرت موجة تلقائية من الشعور العام أثارت دهشة حتي أشد المراقبين الأجانب تشككا.. إذ فجأة أدرك الرجال والنساء.. الذين كانوا منذ قليل ينتقدون »الريس« بمرارة لأنه قاد البلاد إلي أشد الهزائم التي تعيها ذاكرتهم مهانة أن عبدالناصر هو الصخرة التي يمكنهم التعلق بها وسط العاصفة السائدة، إذ كانوا قد اتخذوا منه معبودا سياسيا ولم يكن من المتصور أن يتخلي عن الرئاسة لغيره في تلك اللحظة التي يواجه فيها الوطن خطرا وكارثة.. ولم تمض دقائق معدودة حتي تدفق الآلاف من مواطني القاهرة من بيوتهم والمقاهي وراحوا يستقلون عربات النقل والسيارات الخاصة وكل ما يجري فوق العجلات، وأخذوا يهتفون باسم زعيمهم، ثم اتجهوا إلي منزل عبدالناصر بالقرب من مصر الجديدة لكي يناشدوه أن يبقي ويقودهم. مفاجأة ثقيلة ولعل أشد ما يثير الدهشة في هذا الحدث غير العادي أن عبدالناصر لم يكن قد أخطر خليفته المختار بأمر الاستقالة التي يعتزم تقديمها، ناهيك عن أنه لم يسأله عما إذا كان علي استعداد لتولي الرئاسة.. وكان زكريا محيي الدين قد سمع لأول مرة بهذه الخطة عندما أدار جهاز التليفزيون شأنه في ذلك شأن أي مستمع آخر - ولما لم تكن لديه أية رغبة في تولي رئاسة الجمهورية، لاسيما في مثل هذه اللحظة الحرجة، فقد أنطلق بسيارته بأقصي سرعة ممكنة إلي منزل عبدالناصر لكي يرفض هذه الخلافة وليبلغ الرئيس أنه لايستطيع التنحي عن منصبه بينما الجيش المصري محاصر في سيناء مهما كان اللوم الذي قد يوجهه لنفسه بسبب هذه الكارثة.. وأصر عبدالناصر في بداية الأمر علي أنه مصمم علي هذا القرار، ونظرا لأن سمعة عبدالحكيم عامر قد وصمت بالعار بسبب كارثة سيناء وكان زكريا محيي الدين الخليفة المنطقي ولابد من أن يتولي زمام الأمور.. وقال له عبدالناصر: »إنك مسئول الآن ولا يمكنك الرفض«.. ولكن زكريا محيي الدين لم يكن أقل عنادا، فعلاوة علي إحجامه الشخصي عن تولي القيادة فقد قال إن عبدالناصر لايملك حق اختيار خليفة له وإن حقيقة أنه نائب رئيس الجمهورية أمر لايعتد به، فمجلس الأمة وحده الذي يملك حق تقرير من يتولي رئاسة الجمهورية. ساعتان من الجدل وهكذا استمر الجدل، بينما ظل سكان القاهرة في الشارع خارج المنزل يطالبون زعيمهم بالبقاء وقيادتهم.. وفي هذه الأثناء تجمع وزراء آخرون في غرفة مجاورة لحضور اجتماع دعا إليه عبدالناصر للتصديق علي تنازله عن منصبه، وكان من بينهم محمد فائق وزير الإرشاد القومي الذي تعرض لمعاملة سيئة من الجماهير عند البوابة ظنا منهم أنه زكريا محيي الدين.. وبعد ساعتين من الجدل المتواصل تراجع عبدالناصر ووافق علي أن يرفض زكريا محيي الدين الرئاسة في بيان يذيعه راديو القاهرة فورا، وتم في الحال إعداد تسجيل أرسل بسيارة إلي دار الإذاعة، ولكن في اللحظة الأخيرة ودون أن يبلغ أحدا أمر عبد الناصر الإذاعة بألا تذيع بيان نائب رئيس الجمهورية، ولم يكتشف زكريا محيي الدين هذا الأمر إلا في وقت لاحق من تلك الليلة بعد أن انفض اجتماع مجلس الوزراء.. وقد احتج بشدة ولكن بدون جدوي وقيل له إن عبدالناصر قرر عدم إذاعة أية بيانات أخري إلا بعد أن يجتمع البرلمان صباح اليوم التالي. وكان قرار مجلس الأمة نتيجته معروفة سلفا، فقد طلب من عبد الناصر بالإجماع أن يبقي رئيسا للجمهورية حتي إزالة كل آثار العدوان الإسرائيلي وتحرير كل الأراضي المصرية من احتلال العدو.. وعند قبوله للقرار خول سلطات كاملة للقيام »بإعادة البناء السياسي والعسكري للبلاد«.. أما بالنسبة لزكريا محيي الدين فقد كانت المسألة كلها تمثل خيبة أمل محزنة، فقد اقتنع بأنه كان مخلب قط في مخطط يهدف إلي هز الرأي العام، ودفعه إلي الالتفاف حول الرئيس وتأييده وأن إساءة بالغة قد لحقت به إذ إنه حرم حتي من فرصة إعلان رفضه جهارا منصب رئيس الجمهورية، لأنه عندما أعلن مجلس الأمة قراره في اليوم التالي تخلف لدي الجماهير انطباع كاذب تماما بأنه طالب برئاسة الجمهورية وأن طلبه قد رفض. القشة التي قصمت ظهر البعير كان هذا الموقف الذي جاء بعد سلسلة طويلة من الخلافات بينه وبين زعيمه ابتداء من حرب اليمن وما بعدها هو (القشة التي قصمت ظهر البعير) ومع أن زكريا محيي الدين ظل في منصبه حتي إن أنقشعت الأزمة المباشرة وأعيد تسليح القوات المسلحة بواسطة الروس، فإنه في ربيع عام 8691 قدم استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية ولم يلتق بعبد الناصر مرة أخري إلا في حفل قران كريمة عبداللطيف البغدادي.. والواقع أن القطيعة بين الرجلين كانت كاملة إلي حد أنه عندما أشارت بعض الصحف اللبنانية في وقت لاحق إلي أن زكريا محيي الدين يوشك أن يعود إلي منصبه سرعان ما أستبد الشك بعبد الناصر في أنه يتآمر ضد النظام.. وعندما نشر ما يلز كوبلاند مندوب وكالة المخابرات الأمريكية السابق في القاهرة كتابا في عام 9691 يزعم أنه يكشف تفاصيل الاتصالات السرية بين الضباط الأحرار ووكالة المخابرات المركزية قبيل الثورة تم اعتقال سكرتير زكريا محيي الدين لمدة ثمانين يوما تعرض فيها للاستجواب بطريقة أتسمت بالعنف لأن عبدالناصر اعتقد أن زكريا محيي الدين هو مصدر ما أسماه بحكايات كوبلاند الخيالية. ليس معصوما من الخطأ وقد لا نعرف علي الاطلاق ما إذا كان بيان استقالة عبدالناصر هو عملية مسرحية مقصودة أم لا .. لكن ماهو مؤكد أن رد فعل سكان القاهرة - وفقا لشهادة مراسلي الصحف الأجنبية آنذاك كان تلقائيا، كما كان من المؤكد أيضا أن عبدالناصر كان يدرك تماما مسئوليته الشخصية فيما تعاني منه مصر من مرارة وهزيمة، وليس مستحيلا أن يكون عدم تشاوره مع خليفته المعين لم يزد عن كونه مثالا آخر علي أساليبه التحكمية المتهورة، ولكن إذا كان بيانه مجرد حيلة لاستعادة مكانته الشعبية فإن ذلك لم يسفر إلا عن نجاح جزئي ولعله حقق الرد المرغوب من شعب وبرلمان أصيبا بذهول، لكنه لم ينجح في أن يظفر بتأييد رعاياه ولاسيما من بين الطبقات المتوسطة المستاءة الذين رأوا بوضوح تام الآن أن الزعيم الذي رفعوه إلي مصاف الآلهة ذات مرة ليس معصوما من الخطأ. ربما تغاضي معظم المصريين عن سجل الأخطاء التي وقع فيها عبدالناصر منذ عام 9591 إلا أنهم لايمكن أن يغفلوا آخر وأخطر سوء تقدير ارتكبه.. لم يكونوا يهتمون كثيرا بالتحديات السعودية أو العراقية أو انفصال سوريا عن الوحدة، بل حتي الحرب في اليمن لم تكن تعنيهم كثيرا باستثناء أولئك الذين كان أقاربهم يخوضون القتال، لكنهم كانوا شديدي الاهتمام باحتلال إسرائيل للأراضي المصرية وبالهزيمة المشينة التي حاقت بجيشهم حتي وإن كان كثيرون منهم قد يبدون أمام المراقب العابر أنهم يواصلون حياتهم العادية السهلة كما لو أن شيئا لم يحدث، صحيح أنه لم يكن هناك أي مجال للشك في أن ثورة قد تتهدد زعامة عبدالناصر حتي ولو لمجرد أن الجماهير لم تكن تتصور أحدا آخر يمكن أن يتولي زمام الأمور، ولكن منذ ذلك الحين فصاعدا علي الأقل لم تعد توجد بين القطاعات الأكثر تفكيرا بين البرجوازيين والحركة الطلابية نفس الثقة في حكمه علي الأمور ومن ثم فإنه علي الرغم من محاولته بأن يجعل الاتحاد الأشتراكي العربي في مطلع عام 8691 أكثر تجاوبا مع الشعور الشعبي بل ووعده بإجراء انتخابات من أجل إقامة ديمقراطية برلمانية متي انسحبت إسرائيل من سيناء فلم يعد من الممكن تضييق الُشقة بين الحكومة والشعب. وعلي الصعيد الشخصي كان انتهاء علاقة عبدالناصر بعبد الحكيم عامر من أكثر نتائج حرب الأيام الستة مدعاة للأسي، وعلي الرغم من أن تلك الصداقة كانت قد فترت نوعا ما عقب الانفصال السوري عام 1691، وازدادت فتورا عقب الخلاف حول سلطات القائد العام بعد ذلك بعامين فإن عبدالناصر كان لايزال مخلصا لعبدالحكيم عامر الذي أرتبط به فترة أطول من ارتباطه بأي رفيق آخر في الماضي أو الحاضر فكان يعتبره أقرب أعوانه قبل الثورة ومنذ قيامها واستخدمه لإجراء كافة المفاوضات الهامة مع روسيا سواء بشأن الأسلحة أو المعونة للسد العالي والمشروعات الأخري.. ومع ذلك أصبح يدرك أنه حتي ولو لم يوجه شخصيا اللوم إلي عامر بسبب الهزيمة الأخيرة فإن واجبه كان يقتضي عزل القائد العام، ففضلا عن الخسائر البشعة في الأرواح في سيناء، بات الجيش يعاني من مهانة أنه أصبح موضع تهكم داخل مصر وفي خارجها، لذلك قرر عبدالناصر أن يصنع من القادة المسئولين عبرة حتي ولو لمجرد تبرئة أفراد الجيش واستعادة شيء من الاحترام العام للقوات المسلحة. عرض لعبد الحكيم عامر وهكذا استبعد عبدالحكيم عامر من كافة مناصبه وعزل صدقي محمود قائد سلاح الطيران مع تسعة آخرين من كبار الضباط، كما قدم صدقي محمود مع آخرين للمحاكمة بتهمة الإهمال المطلق في أداء واجبهم.. ولكن مراعاة لصداقته الطويلة مع عبدالحكيم عامر بعث إليه عبدالناصر رسالة مع أنور السادات يبلغه فيها أنه إذا غادر البلاد علي الفور فلن يلقي القبض عليه بل عرض عليه أن يرسل إليه أي نقود قد يحتاج إليها لكي يعيش في المنفي.. لكن عبدالحكيم عامر رفض العرض بازدراء وقال إنه سوف يبقي في مصر ويبريء نفسه أمام محاولات الحكومة والصحافة لإلقاء اللوم كله عليه. في الحلقة القادمة: كابوس دائم يطارد عبد الناصر