صبرى غنىم مصر فعلا في حاجة الي رئيس " دكر " بقوة وصلابة زكريا محيي الدين رحمة الله فقد جاءت وفاته لتكون خاتمة لتاريخ الضباط الاحرار الذين كانوا يحكمون مصر منذ قيام ثورة 52 حتي وفاة أنور السادات .. وقد كان زكريا محيي الدين هو أقوي شخصية خلال فترة حكم عبدالناصر ولذلك رشحه عبدالناصر عند تنحيه في أعقاب هزيمة 67 ليتولي موقعه كرئيسا للجمهورية علي اعتبار أنه الشخصية القوية القادرة علي إدارة شئون البلاد.. وبعد وفاة عبدالناصر فضل زكريا محيي الدين الانسحاب من الساحة حيث كان يري أن السادات أحق بالرئاسة علي اعتبار أنه كان النائب الشرعي للرئيس عبدالناصر .. ومن يومها التزم محيي الدين الصمت وانزوي بعيدا عن الاضواء .. وإذا كانت مصر تبحث الآن عن رئيس" دكر " للبلاد .. فعلينا أن نستعرض تاريخ زكريا محيي الدين الذي لاتعرفه هذه الأجيال .. فعندما كان وزيرا للداخلية، كانت الشرطة في عهده في خدمة الشعب .. وكان رجالها أصدقاء للشعب .. لذلك انخفض ترمومتر الجرائم واختفت جرائم الخطف، أو الابتزاز أو السرقة بالإكراه ولذلك كانوا يلقبونه بلقب الرجل صاحب القبضة الحديدية. - وأذكر أنه الوزير الوحيد الذي منع هجرة العمالة الوافدة من الصعيد والوجه البحري الي القاهرة، فكان يقوم بترحيلهم الي قراهم ولذلك نجح في منع ظهور الباعة الجائلين في قلب القاهرة.. ولم تظهر العشوائيات إلا بعد أن ترك موقعه واعتزل العمل السياسي. - ولأن زكريا محيي الدين كان أقوي شخصية بعد عبدالناصر، فمصر في رأيي في حاجة الي نسخة منه في قوة الشخصية أي بالعربي الفصيح مصر عايزة الرئيس "الدكر" بصرف النظر عن هويته السياسية إذا كان إخوانيا أو مدنيا.. المهم أن يكون بقوة زكريا محيي الدين رحمة الله.. لأن الفترة التي تعيشها مصر تبحث عن الاستقرار الأمني وتوفير مناخ الاستثمار العربي والأجنبي حتي تحدث إنتعاشة في الوضع الاقتصادي للبلاد، وبدون الأمن لن يأتي المستثمر الي مصر وسوف تزداد طوابير البطالة وترتفع نسبة حوادث السرقات والابتزاز والخطف تحت تهديد السلاح طمعا في المال.. إن هذه المرحلة لاتحتاج الي رئيس يتعلم فينا الديمقراطية - الذي أحزنني في هذه القضية أن شخصية لها ثقلها السياسي بوزن المرحوم زكريا محيي الدين لم تأخذ حقها إعلاميا، لا في التليفزيون ولا في الصحافة، لم يتناول الاعلام المصري تاريخ وعظمة هذا الرجل الذي كان عبدالناصر يري فيه كل أحلامه .. فقد اكتفي الاعلام بمراسم تشييع جنازته العسكريه .. صحيح أن قادة الاسلحة وعلي رأسهم المشير طنطاوي كانوا في مقدمة الجنازة .. وبقدر حزني علي رحيل زكريا محيي الدين بقدر امتناني للتليفزيون اللبناني الذي أذاع فيلما تسجيليا له كأقوي شخصية عسكرية شهدتها مصر منذ ثورة 1952 .. فقد أتيح لي متابعة هذا الفيلم حيث كنت وقت الوفاة في بيروت واكتشفت محبة اللبنانين لرجال عبدالناصر وكيف كانت لزكريا محيي الدين مكانة كبيرة عندهم رغم إعتزاله العمل السياسي منذ استلام السادات مقاليد الحكم.. - أنا شخصيا كنت أعتبر نفسي الابن المدلل لزكريا محيي الدين ويشهد علي ذلك جميع الزملاء الصحفيين حيث كانوا يعرفون علاقتي الشخصية به .. فقد كنت الصحفي الوحيد الذي يدخل بيته، وأذكر أن أول زيارة لي عندما دعاني الي بيته في منشية البكري قبل انتقاله الي فيلته بالدقي.. و كنت أعمل وقتها محررا في مجلة "آخر ساعة" وكان أستاذنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيسا للتحرير فعلم أنني علي موعد مع زكريا محيي الدين فاستدعاني ليتأكد من صحة الموعد.. وعندما تأكد بنفسه أرسل معي المرحوم حسن دياب وكان وقتها كبيرا للمصورين قبل أن يصبح المصور الخاص لجمال عبدالناصر .. وفي هذا اليوم انفرد بمجموعة من الصور النادرة تناقلتها وكالات الأنباء العالمية .. لأنه لأول مرة يظهر الرجل صاحب القبضة الحديدية علي ارض الصالون في بيته وهو يداعب ابنته الوحيدة " مديحة " وكانت طفلة.. ثم يحمل ابنه "محمد" وقد كان أيضا طفلا ويرفعه بيده الي أعلي ثم يلقي به الي أسفل.. و قد كان فرحا بطفليه.. حقا كان زكريا محيي الدين الأب الحنون .. رغم أنه في موقعه كان عنيفا، قاسيا، لايعرف الرحمة مع الفساد أو "الانحراف". - وأذكر له موقفا يكشف لك عن شخصية هذا الرجل، فهو رغم أن الكلام معه كان بحساب إلا أنه كان يحب أن يستمع للطرف الآخر وكثيرا ما كان يأخذ بالنصيحة ولا يركب رأسه.. فقد عرضت عليه فكرة البوليس النسائي بعدما رأيت كيف تتعرض المرأة لمهانة داخل أقسام الشرطة .. فسألني يومها وهل ستجد هذه الفكرة قبولا لدي النساء للعمل في الشرطة النسائية.. - قلت له، نطرح هذه الفكرة في الصحف من خلال إعلان بعد إجراء حديث معكم ووافق .. وانهالت الطلبات علي وزارة الداخلية.. ونجحت الفكرة بعد تدريب الطالبات في كلية الشرطة علي العمل البوليسي.. وتم توزيع عدد من الخريجات علي أقسام الشرطة وعدد منهن في شرطة الآداب .. وعدد آخر في المطارات.. ونجحت الشرطة النسائية رغم تقلصها الآن.. - هذا الكلام يعطيك انطباعا علي أن رجلا في مكانة زكريا محيي الدين كان يسمع للرأي الآخر ولايطنش، لذلك نريد من الرئيس القادم أن يحترم الرأي الآخر.. والأهم من هذا ألا يستخدم سياسة " الطناش " ويتجاهل النقد، لأن سعة صدره للنقد تصنع منه رئيسا ديمقراطيا وليس ديكتاتوريا.. لقد مات زكريا محيي الدين في صمت وقد كان مفروضا علي أجهزة الاعلام أن تحكي حكايات عن تاريخ هذا الرجل العظيم للأجيال التي لم تعاصره .. يكفي أن أبناءنا الذين قاموا بثورة 25 يناير، لم يتناولوا جرعة كبيرة عن تاريخه.. لأنه اختفي عن الحياة السياسية منذ اكثر من 30 عاما بإرادته حتي جاء موعده مع ربه.