البيت الأبيض: المبعوث الأمريكي الخاص أموس هوكشتاين يزور إسرائيل اليوم    نتائج مزوّرة، حزب زوما يطعن بانتخابات جنوب أفريقيا    وقوع 4 هزات أرضية في جورجيا في يوم واحد    إطلاق قنابل ضوئية في أجواء المناطق الشمالية الغربية بقطاع غزة    الرابعة خلال ساعات، وفاة حاج مصري من الشرقية أثناء تأدية المناسك، وابنته تنعيه بكلمات مؤثرة    متى ينتهي وقت ذبح الأضحية.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    مدفعية الجيش الإسرائيلي تستهدف بلدة "عيترون" جنوب لبنان    استشهاد 3 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    حلو الكلام.. يقول وداع    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    حقيقة عودة كهربا إلى الدوري السعودي    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    زيجته الثانية أشعلت غضبهم.. الأبناء وأمهم يحرقون مسكن والدهم في الوراق    لجنة الحكام تُعلن عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك والمصري البورسعيدي    عبير صبري: شقيقتي مروة «توأم روحي» و«لسه بتاخد مني عيدية.. فلوس ولبس وكل حاجة»    تشكيل منتخب النمسا المتوقع أمام فرنسا في أمم أوروبا 2024    الصحة تُوجه نصائح مهمة للعائدين من الحج.. ماذا قالت؟    إدمان المخدرات بين الهدف والوسيلة    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    صفارات الإنذار تدوى فى كيبوتس نيريم بغلاف قطاع غزة    محافظ جنوب سيناء يشهد احتفال أول أيام عيد الأضحى بالممشى السياحى بشرم الشيخ    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هل تتمتع الحيوانات بالوعي؟ كيف تغير الأبحاث الجديدة المفاهيم    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    إيرادات حديقة الحيوان بالشرقية في أول أيام عيد الأضحى المبارك    بيلينجهام رجل مباراة إنجلترا وصربيا في يورو 2024    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    موعد مباراة إنجلترا والدنمارك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة    ممثل مصري يشارك في مسلسل إسرائيلي.. ونقابة الممثلين تعلق    وفاة الحاج الثالث من بورسعيد خلال فريضة الحج    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    خفر السواحل التركي يضبط 139 مهاجرا غير نظامي غربي البلاد    زيلينسكي يدعو لعقد قمة ثانية حول السلام في أوكرانيا    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    بعد كسر ماسورة، الدفع ب9 سيارات كسح لشفط المياه بمنطقة فريال بأسيوط    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دقات علي باب الصمت : زكريا محيي الدين تابع ثورة يناير ولم يصدق انسحاب الداخلية
لم يتصورنفسه بديلا لعبد الناصر ولم يكن ساعيا للرئاسة الحفيد الثائر: اكتشفت ان التوعية وحدها لاتكفي .. لابد من التنمية وهذا دور الشباب ليس علي الحكومة القيام بكل شئ هناك
نشر في الأخبار يوم 21 - 06 - 2011

محمد محيى الدين اثناء حواره مع محررة الأخبار في الطابق الأرضي .. أسفل حجرته الخاصة مباشرة جرت هذه المقابلة، جلسة عائلية لم يشذ عنها سوي كاتبة هذه السطور وزميلي المصور جان نجاح. الأب راقد في غرفته العلوية لا تسمح حالته الصحية باستقبالنا، وهنا في غرفة الاستقبال التي شهدت زواراً و لقاءات شبه رسمية وأحداثاً تاريخية مهمة كان في استقبالنا الإبن الكيميائي محمد والابنة الكبري السيدة مديحة والحفيد الثائر زكريا. غابت عنا فقط ابنته الثانية السيدة سامية.
لم يكن يفصلنا عنه سوي بضع درجات. مجرد سقف يعزلنا عن كنز الذكريات السيد زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق، لكنه ليس كأي سقف. انه مصمت، مصفح، كتوم كصاحب البيت. لايملك مفاتحه أحد سواه، ولم يتمكن حتي الآن أي شخص - مهما حاول - من فتح مغاليقه واختراق حاجز الصمت الذي أحاط به نفسه . الصندوق الأسود لزكريا محيي الدين يبيت في أحضانه، لم يجرؤ أحد علي الاقتراب منه، ومن ثم لم يعد لدينا من أقوال أو ذكريات منقولة عنه سوي بضعة سطور قديمة.
هو واحد من القلائل الباقين علي قيد الحياة (93 عاما أطال الله في عمره) من الدائرة المقربة من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وعلي عكس أبناء جيله ممن عاصروا هذه الفترة لم ينطق بكلمة عنها. كلهم كتبوا مذكراتهم وأصدروا كتباً وأنشأوا مواقع الكترونية وظهروا علي شاشات التليفزيون ودخلوا في معارك فيما بينهم بسبب تباين الرؤي والتقييم لأحداث مضت شاهدوها وربما ساهموا في صنعها .. فيما عداه! تواري عن الأنظار لدرجة انه لم تعد له صور ماثلة في أذهاننا إلا الصور الرسمية التي تعود إلي نهايات الستينات من القرن الماضي علي أقصي تقدير.وهنا تتبدي قيمة الهدية الثمينة التي أهداها ابناء زكريا محيي الدين ل "الأخبار" وهي صوره التي لم تنشر من قبل ومنها أحدث صورة له منذ عامين.
منذ اعتزاله الحياة العامة والعمل السياسي في عام 1968 التزم الصمت رغم انه تولي العديد من المناصب النافذة وأوكلت اليه مهام شاقة ربما علي رأسها تكوين جهاز للمخابرات المصرية عام 1952. فقد تولي محيي الدين منصب مدير المخابرات الحربية بين عامي 1952و 1953 ثم عين وزيراً للداخلية عام 1953. أسند إليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تطوير جهاز المخابرات العامة المصرية في 1954. عين بعد ذلك وزيراً لداخلية الوحدة مع سوريا 1958. تم تعيينه رئيس اللجنة العليا للسد العالي في 26 مارس 1960. قام الرئيس جمال عبد الناصر بتعيين زكريا محيي الدين نائباً لرئيس الجمهورية للمؤسسات ووزيراً للداخلية للمرة الثانية عام 1961. وفي عام 1965 أصدر جمال عبد الناصر قراراً بتعيينه رئيسا للوزراء ونائبا لرئيس الجمهورية.
كانت علي عاتقه مسئولية تاريخية أن يقول كلمته كشاهد عيان، لقد ساهم في ثورة 1952 وكان واحدا من الضباط الأحرار وعضوا في مجلس قيادة الثورة .. فلماذا الصمت؟ ما السر أو الأسرار التي يطويها بين ضلوعه؟
"هذا خياره ونحن نحترمه ونلتزم به" هكذا يجيبني الكيميائي محمد زكريا الابن الوحيد لزكريا محيي الدين. " وحتي القليل الذي نعرفه منه لا يمكن أن نبوح به احتراما لهذا الخيار ".. لا تنسي انه رجل مخابرات في المقام الأول. هكذا يحذرني الإبن بلطف من عدم محاولة اجتياز حاجز الصمت الذي التحف به الوالد. هو ذاته الصمت ، لكن مصحوبا بابتسامة، يجاب به علي سؤالي عما إذا كان كتب مذكراته او توجد مخطوطات لها.
عندما تنحي عبد الناصر عن الحكم عقب هزيمة 1967 ليلة 9 يونيو أسند الحكم إلي زكريا محيي الدين، ولكن الجماهير خرجت في مظاهرات تطالب ببقاء عبد الناصر في الحكم. بعدها قدم محيي الدين استقالته، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية عام 1968 هل تذكرون تلك الفترة؟.
بيتنا اتحدف بالطوب بلا ذنب
"نعم اذكر هذه الليلة مع اني كنت طفلا ربما تكون الصورة اوضح في ذهن مديحة". تتدخل الإبنة الكبري شديدة الالتصاق بوالدها والتي اصطحبها معه ذات مرة إلي مقر المخابرات العامة في بدايات إنشائه لترسم وتلون كباقي الفتيات من سنها حين يصاحبن ذويهم الي اماكن عملهم. يصيح الإثنان بصوت واحد : "ليلتها بيتنا اتحدف بالطوب ! كانت الجماهير ثائرة ومتمسكة بعبد الناصر و خارجين من النكسة ولا يتخيلون أحدا بديلا عن ناصر. انكمشنا جميعا في ركن من المنزل خشية هجوم الناس واقتحامهم للبيت مع اننا مثلهم لم نكن نتخيل زعيما غير ناصر.
هل تألم الوالد من هذا الموقف الشعبي وشعر بأن الناس لا تريده؟ يجيبني محمد: "حتي هو نفسه لم يكن يتصور أحدا بديلا لناصر، ولم يكن ساعيا للمنصب". هل دبت الخلافات وصراعات السلطة بين أعضاء القيادة المحيطة بعبد الناصر فآثر الانزواء؟ .. سؤالك إجابته موجودة فقط لدي الوالد .. هكذا يأتيني الرد علي باقي أسئلتي اللحوحة والملتوية.
تشعر مديحة بعدم ارتوائي من هذه الإجابات المقتضبة وتلتمس العذر لأسرتها في هذا التكتم الشديد الذي ساعد عليه ما استشعروه من حرص بعض الجهات علي عدم التركيز علي الموقف الحقيقي لوالدها، وتسألني في نبرة عتب" لماذا لم تلق وسائل الإعلام الضوء علي البيان الذي أصدره والدي يرفض تكليفه بالرئاسة ويتمسك برئاسة عبد الناصر؟"
ويتدخل محمد الإبن الوحيد :" هل تعلمين ان الوالد قام بتسجيل هذا البيان بصوته في منزل عبد الناصر بمنشية البكري علي الجهاز الخاص بخالد عبد الناصر لكن تأخرت إذاعة البيان حتي فجر اليوم التالي
زكريا »غلاء« الدين
عند الاقتراب من استعراض افكاره الإصلاحية والتنموية يسجل التاريخ لزكريا محيي الدين انه استطاع خلال رئاسته للحكومة التي لم تستمر أكثر من 11 شهرا ان يضع لمصر أول خطة خمسية للتنمية وأن يعقد مؤتمر الانتاج الأول الذي دعا منه كل رؤساء شركات القطاع العام إلي مجلس الامة لوضع اسس تطوير الانتاج ، كما عقد أول مؤتمر للإصلاح الحكومي وكان يهدف منه إلي إصلاح الأداء الحكومي والابتعاد عن البيروقراطية .
لم تكن البيئة النفسية في ذلك الوقت تقدر »كما يبدو « إجراءات الإصلاح المتلاحق التي شرع فيها الرجل بدليل انه حين اراد تحرير السوق قليلا ووضع خطة مستقبلية للتنمية أثناء رئاسته للحكومة قرر رفع جزء من الدعم عن بعض المواد الاستهلاكية وارتفعت اسعار بعض المواد التموينية بواقع قرش صاغ أو قرشين ساعتها ثارت الجماهير وهتفت ضده . تتذكر الابنة مديحة: » علي فكرة وقنها هاجمت الجماهير والدي وأطلقوا عليه لقب زكريا غلاء الدين«!
الثورة كانت علي الغلاء إذن. مرت سنوات علي هذه الواقعة شهدت وقائع مماثلة قد لا توازيها في الحدة سوي انتفاضة الخبز او أحداث 18 و19 يناير 1977في عهد الرئيس الراحل انور السادات والتي أطلق عليها انتفاضة الحرامية.
ثورة يناير
ربما لأن ثورة 25 يناير لم تكن ثورة جياع انضم لها ابناء زكريا محيي الدين. ملاحظة تطرأ علي ذهني عند الانتقال بمجري الحديث الي الدور الذي لعبه ابناء وأحفاد المسئولين السابقين في الثورة المصرية المعاصرة. ففي ميدان التحرير- سلة فواكه وورود الثورة - انضمت كل فئات الشعب وأوساطه وأعماره. لكن مايلفت الانتباه بحق هو وجود ابناء زعماء وحكام سابقين في الميدان وبالأخص أبناء ثوار يوليو. قد يبدو لك مدهشا أن تجد الواقف الي جوارك ابناً لعبد الناصر أو ابنة للسادات أو تفاجأ بأن هذا الذي يمد يده اليك بالشطائر هو ابن زكريا محيي الدين أو حفيده زكريا(27 سنة). هل هي الجينات الثورية تعربد في عروق الأبناء؟
أتوجه بسؤالي هذا لعائلة محيي الدين لا سيما وقد عرفت انهم كانوا يتبادلون الإقامة في ميدان التحرير علي شكل ورديات خاصة الإبن والحفيد. وأضيف بالأحري: ما الذي دفعكم الي ميدان التحرير؟
يجيبني محمد زكريا (55 سنة) العضو المنتدب بإحدي شركات المواد الكيماوية موضحاً بل ومؤكداً: "أولا أحب أقول لك انني قبل 25 ينايرلم تكن لدي أي ضغينة نحو النظام السابق، فقط مجرد ملاحظات علي أسلوب الحكم وهي نفس الملاحظات التي كانت تراود أذهان كل المصريين. هي نفس المطالب بتحقيق إصلاحات اقتصادية وسياسية، نفس المعارضة لفكرة التوريث. لكني كنت أراقب عن بعد وأتابع وعود الإصلاحات صحيح لم أكن راضياً لكني كنت اكتفي بهذا الشعور. الحقيقة جيل الأبناء حمل الشعلة، زكريا ابني نزل الميدان من أول يوم، لم أكن متحمسا بقدر ما كنت أتساءل ماذا يريد هؤلاء الشباب؟ وعرفت من زكريا انهم يطالبون بعدالة اجتماعية واصلاحات سياسية وحريات. كلها مطالب مشروعة. ووجدت زكريا مصمما علي النزول في الوقت الذي يحاول بعض الأصدقاء إقناعي بالنزول في مسيرة مؤيدة لمبارك، وأصدقاء آخرين يتفقون علي النزول لميدان التحرير.نزلت من هنا انا وزكريا والتقينا في الطريق ببعض الأصدقاء والجيران ووجدنا جماعات من الناس تخرج من الشوارع وتلتقي ببعض وتتزايد الجماهير في مسيرات ضخمة متوجهة نحو ميدان التحرير".
كرهنا الصوت الواطي
يتدخل الحفيد زكريا: كان الحماس مشتعلا والهتافات مدوية علي طول الطريق من ميدان مصطفي محمود عبر شوارع المهندسين والدقي الي كوبري قصرالنيل: مش هنطاطي مش هنطاطي إحنا كرهنا الصوت الواطي". تلمع في ذهني المفارقة بأن بداية الطريق الي ميدان التحرير كانت من ميدان مصطفي محمود الذي تحول بعد ساعات الي مكان تجمع الموالين لنظام مبارك ومقر لتواجد الجماعات المؤيدة له ، مع ذلك ألتفت الي زكريا بدهشة متسائلة عما يمكن ان يلهب شاباً في مثل عمره متخرج في جامعات كندا ودارس للعلوم السياسية ولا يعاني مثل باقي أبناء جيله من شظف العيش أوشبح البطالة او غموض المستقبل. ويجيبني زكريا: "بعد إنهاء دراستي وعودتي كنت يائسا ً ولم يكن أمامي أفق. ربما ساهمت دراستي للعلوم السياسية في توسيع مداركي وإقناعي بضرورة القيام بدور للنهوض بالوطن. الأوضاع لم تكن مبشرة لكن حين اطلعت عبر الإنترنت علي ترتيبات يوم 25 يناير شعرت انه جاء الوقت للقيام بشيء مفيد. قررت المساهمة رغم عدم وجود سابق معرفة لي بمنظمي الحركة . نزلت دون اتفاق مع أحد لكن طوال الطريق وفي ميدان التحرير كنت أصادف أصدقاء قدامي لم التق بهم ربما منذ الطفولة. الكل خرج دون ترتيب مسبق لكننا اكتشفنا اننا مجمعون علي هدف واحد هو التغيير والإصلاح".
علمت مسبقا بموقعة الجمل
لم يكن محمد زكريا متحمسا تماماً إذا ً، وتعرض لمحاولات اجتذاب متناقضة لكنه مع ذلك اختار الذهاب الي التحرير، ربما مدفوعا بحماسة ابنه الشاب وشجعه علي ذلك وجود أطراف من جيل النضج والكهولة من أبناء جيله، لكنه تحول الي بعد فترة وجيزة الي ناشط مهم في الميدان .. لا بد من وجود دافع قوي عبأه بهذا النشاط وتلك القوة وكان من الطبيعي ان اسأله عن ذلك الدافع. يبتسم محمد زكريا ليتذكر دقائق وتفاصيل تلك الأيام الأولي من الثورة ويقول:" في الأيام الأولي كان الشعور يتزايد بداخلي بعدم الرضا فرد الفعل الرسمي بطيء ولا يلبي طموحات الثوار حتي كان خطاب الرئيس السابق بتاريخ 81/2 والذي انتظره الناس بلهفة فإذا به يقول لم اكن انتوي الترشح، ووو الخ لكنه لم يعلن بشكل حاسم استجابته للجماهير كان المفترض ان يعلن انه لن يترشح وان ابنه لن يترشح وان يحل مجلسي الشعب والشوري". يواصل:" اصبت كغيري بكثير من الإحباط حتي كان اليوم التالي فإذا باتصال هاتفي يأتيني من صديق يسألني اين ابنك؟ قلت في التحرير ! قال لي انزل هاته فورا اليوم عرفت من أحد المقربين للحزب الوطني انهم عقدوا اجتماعا في مجلس محلي حلوان بعد ان احترق مقر الحزب وحضره 40 من كبار قيادات الحزب الوطني واتفقوا علي خطة لكنس الميدان وهايبعتوا ناس راكبين جمال وأحصنة يقتحموا الميدان ويضربوا عليهم النار يقتلونهم خمسين ستين واحد بعدها الناس تنفض وتمشي. كنت تقريبا لسه راجع من الميدان كنا نذهب للميدان ثم نعود لنتولي دورنا في اللجان الشعبية لحماية المنطقة. طبعا نزلت فورا أحاول الوصول لزكريا ".
اللحظة الفاصلة
"الدخول لميدان التحرير كان في غاية الصعوبة أثناء الطريق تمكنت من الاتصال بزكريا أحاول إقناعه بمغادرة الميدان وحكيت له ما وصلني من أخبار وإذا به يكرر ما أقوله له علي مسمع من المحيطين به!".
يضحك الجميع وهم يتذكرون هذا الموقف, ويأخذ زكريا حبل الكلام من والده ليكمل المفارقة: الصوت كان بعيدا ولم أفهم خطورة الموقف ووجدتني أكرر بصوت عال: هيكون فيه ضباط وعساكر في وسطينا بزي مدني ويحتكوا بينا ويضربونا؟ وإذا بوالدي يصرخ في : اسكت خالص أنا جايلك أهه".
لم يقدر الشاب طبيعة تحذير والده وحقيقة اندساس عناصر ترغب في تفجير الموقف واحتمال وجودها ملاصقة له. أخيرا التقي بالوالد في وسط "المعمعة". حتي تلك اللحظة لم يكن محمد زكريا مصدقا ً لهول ما وصله من تحذير مسبق. حتي وقعت الواقعة . شاهدت شخصا ممسكا بدرع وسيف يطوح به في الهواء ويصيب المتظاهرين والثوارالعزل يواجهون الجمال. كنت غارقا في الدماء. دماء المتظاهرين والشهداء. كانت هذه هي اللحظة الفاصلة التي أيقنت فيها ان هذا النظام لابد ان يرحل وأنه لا أمل فيه ولا في التفاوض معه وانقطعت كل صلة نفسية لي بذلك النظام الذي يتآمر علي قتل المواطنين. حاولت اقناع زكريا بالمغادرة لكنه رفض".
ينفعل الحفيد الثائر وكأنه يستعيد استنكاره لهذا الطلب الغريب من والده. "كيف تطلب مني ترك الميدان ومازالت البنات باقيات فيه؟ كيف يسمح لي ضميري بالانسحاب وهناك فتيات تركن بيوتهن ومعتصمات منذ البداية؟"
ليلة التنحي
تصف مديحة مشهد الميدان ليلة تنحي الرئيس السابق حسني مبارك وقد امتلأ عن آخره بالمواطنين: "لم أر الفرحة في عيون المصريين جميعا مثل تلك الليلة. مصر كلها كانت هناك كل الطبقات.. كل الأعمار.. دموع الفرحة غير مسبوقة. وأجمل ما كان في الميدان ليلتها الهتاف الذي رج أنحاء الميدان وهز كيان الناس إرفع راسك فوق انت مصري".
أشاكسها وأحاول المقارنة بين ليلتي تنح عاشتهما مديحة، يفصل بينهما أقل من نصف قرن، ليلتان شهدتا دموع المصريين، لكن شتان بينهما ليلة تنحي عبد الناصر وليلة تنحي مبارك. رغم الألم الذي عاشه بيت زكريا محيي الدين في الليلة الأولي فقد عاش مع كل المصريين فرحة لاتضاهي في الليلة الثانية. أسألهم هل كان الوالد يتابع أحداث الثورة، وماذا كان رأيه فيها؟
يتبادل محمد ومديحة النظرات ويضحكان. أمام حيرتي يبادر محمد زكريا لتوضيح السبب فيقول: الوالد لايحب أبداً أي سؤال يبدأ بما هو رأيك في كذا؟ وحين نطرح عليه السؤال بهذه الصيغة يكون جوابه لماذا تسألون ؟ ما حدث قد حدث. ويعود ليجيب بجدية "لكننا كنا نحكي له كل شيء وفي الحقيقة كان سعيداً جدا ً بأخبار الثورة، لكنه لم يصدق أن الداخلية انسحبت وأن الشرطة اختفت. كنت أقسم له ان هذا ما حدث لكنه كوزير داخلية سابق لم يستطع تصديق هذه الحقيقة وأذهله الانفلات الأمني".
البحث عن رئيس زاهد
نحتاج لنظرة الي الأمام، غوص في أعماق المستقبل. من هو الرئيس القادم الذي يلبي طموحات المصريين، ما الخطوة القادمة ؟ كيف نستثمر زخم الثورة؟ يذكرني محمد زكريا برأي كان قاله لي في إحدي مكالماتنا الهاتفية: "كنت قلت لك اننا نحتاج لرئيس مثل نلسون مانديلا. زعيم زاهد في السلطة ولا يبحث عن المناصب يستطيع ان يفعل في مصر كما فعل مانديلا في جنوب افريقيا ويتبني سياسة المصالحة والمصارحة التي قاد بها بلاده من مشكلة التمييز العنصري. في مصر لدينا أزمة طائفية الحل الأمثل لها هو المصارحة والمصالحة. الأزمة الطائفية ذابت في ميدان التحرير لكنها سرعان ما برزت بعده". ويسترسل:" احكي لك حكاية طريفة حدثت في التحرير. واحد من الشباب أصدقاء الأولاد مسيحي اسمه كريس. كنا جميعا متلازمين ومتلاصقين. يوم معركة الجمل لما اشتد الهجوم وكان الجميع يواجهون الخطر أحاط به اثنان من الشباب وأمسكاه من كلتا يديه لمؤازرته وفي محاولة لحمايته وهتف أحدهما له: فلتجعل خاتمة قولك النطق بالشهادتين ، فقال لهما انه مسيحي، وفي عز الخطر ضحك الجميع وخفت حدة الموقف المرعب بهذا الموقف الطريف. لم يكن هناك تمييز بين مسلم ومسيحي. الآن نحتاج للمصارحة ومناقشة أسباب الأزمة ومنع أسبابها ثم المصالحة."
أثناء الجلسة دار استعراض سريع لأسماء أبرزالمرشحين للرئاسة، ثمة رنة حماس في نبرات الشاب الثائر زكريا حين تردد اسم الدكتور البرادعي ودافع عنه ضد حملات التشويه التي تعرض لها، بينما تؤكد العمة مديحة أنه يكاد ان يكون الوحيد من المرشحين الذي يمتلك برنامجاً اجتماعيا واضحا. وحين أدفع بأنه ليس متواجدا في البلاد معظم الوقت،وربما لا يمتلك الكاريزما، يؤمن محمد زكريا ويقول انه التقي بأبرز المرشحين في مناسبات مختلفة لكن الوصول للبرادعي صعب ومقابلته تحتاج لترتيبات عبر الإيميل.. عيبه انه ليس ملتحما بالجماهير. الخلاصة انك تشم نسمة ارتياح للبرادعي في هذا البيت، لكن دون جزم أو إفصاح ربما لم يأت أوانه بعد.
عودة المال ثم المصالحة
"بالمناسبة علي عكس التيار السائد وما يمكن ان تتوقعيه، أنا مثلا مع فكرة المصالحة مع " الفلول" علي شرط إعادة الأموال التي نهبوها"! هكذا يباغتني محمد زكريا كمزيد من التوضيح لفكرة المصارحة والمصالحة. اصيح مستنكرة: هكذا بهذه البساطة ، وعفا الله عما سلف؟ يجيبني بيقين:" نعم عفا الله عما سلف. دعينا نناقش الأمر بانفتاح، أنا هنا اتكلم عن الفساد المالي وليس السياسي.
لم اهضم الفكرة جيدا أو ربما لم استسغها ، مع ذلك فهذا رأيه. وكأنه شعر بذلك فواصل شرح كلامه: أليس من الأجدي أن نستعيد الأموال المنهوبة إن أمكن بدلاً من تضييع الوقت في مسارات قانونية معقدة وطويلة وغير مضمونة النتائج؟ من اخذ شيئا يرده والبلد هي الكسبانة". يستطرد في شرحه: لقد حققت الثورة مطالب رائعة اتفقت عليها كل فئات الشعب لكن المظاهرات الفئوية أدت الي تعطيل الإنتاج في بعض القطاعات هنا يجب ان تتخذ الحكومة بعض القرارات العاجلة، وتضع جدولا زمنيا لباقي القرارات".
التمييز مطلوب أحيانا
لا يبدو ان رجل الأعمال الذي ثار في ميدان التحرير ضمن كل أطياف المجتمع راض تماما عن نتائج الثورة ولا عن الأداء الحكومي، تأكدت ان انطباعي في محله حين استطرد قائلاً: " أنا آخذ علي الحكومة اسلوب رجل المطافي، كلما تفجرت مشكلة هرعت الي حلها دون تخطيط للمستقبل. مطلوب أيضا إعادة هيبة الدولة والشفافية في التعامل مع الشعب". ويضيف : هنا مثلا أود لفت انتباهك الي ضرورة عمل المحاكم العسكرية خصوصا مع من يشيعون الرعب والفزع بين المواطنين.
تتحدث عن البلطجية؟ "نعم، من الضروري عودة الأمن والانضباط مرة أخري للشارع المصري وعودة الثقة في أجهزة الأمن. هل يعقل ان ندين قيادات الأمن الذين واجهوا البلطجية وحاولوا منعهم من اقتحام الأقسام لإخراج ذويهم من السجون ؟ هل يعقل ان نساوي بين كل القتلي اثناء الثورة دون تمييز بين الشهداء الذين استشهدوا في ميادين مصر وبين البلطجية الذين قتلوا أمام الأقسام نتيجة خيانتهم وغدرهم؟
أنظر الي الشاب الثائر استغيث به لأري ردة فعله فأجده يقول: "عموما هذه المسائل تحتاج للكثير من توعية الرأي العام حتي يستطيع تكوين وبلورة آراء عملية تقل فيها نسبة العواطف والمشاعر وتنتصر فيها الموضوعية والجدية".
كنت أعلم ان الحفيد زكريا ترك وظيفته في إحدي الشركات ليتفرغ لعمل برامج توعية لأهل كفر شكر مسقط رأس ومنبت العائلة، بل هي معقل آل محيي الدين ودائرتهم الانتخابية التاريخية لم تفلت منهم سوي مرة أومرتين بطريق الخطأ أو الصدفة. أردته ان يحدثني عن هذه التجربة الفريدة بالتفرغ للعمل العام لخدمة كفر شكر.
مشكلات قومية وحلول ثورية
"أثناء الثورة أتيح لي الاحتكاك بالعديد من فئات المجتمع ومن مختلف الطبقات. ووجدت انه من السهل التأثير علي الفئات البسيطة والمهمشة بشكل يسمح باستغلالها." ويواصل الحفيد الثائر:"بدأت مع عدد من شباب وناشطي كفر شكر جهدا ً لتوعية الناس بأهمية الثورة ونتائجها والمأمول منها. وبعد فترة اكتشفت ان التوعية وحدها لاتكفي وأنها لا تلبي الاحتياجات المعيشية للناس وهناك جهات تقوم بتوفير هذه الاحتياجات دون جهد مقابل من الناس، علي ان يقوموا بأداء المطلوب منهم دون تفكير أو لمجرد إرضاء هؤلاء المانحين" .
هكذا علي أرض الواقع اكتشف الشاب الثائر عدم جدوي الحديث عن الثورة وأهدافها مع ذوي البطون الخاوية. توارت حجته ومنطقه السياسي وحديثه عن الحرية والعدالة أمام سطوة زجاجة زيت وشيكارة أرز أوسكر. لكنه علي الجانب الآخر رفض الرضوخ لهذا المنطق المعيب ووجد ان تنمية المجتمع هي الحل الأمثل. وأن العمل في مشروعات تنموية توفر الوظائف للعاطلين وتضمن لهم دخولاً محترمة وتقدم إنتاجا قد يكون جزءا من الحل، وليس كله. " مش مطلوب من الحكومة تعمل كل حاجة. أنا مؤمن بدور منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمبادرات الشعبية.وأظن مثلا أن مشكلة مثل الأمية من الممكن حل جزء كبير منها بالمبادرات الشعبية. يعني مثلا طلاب الثانوية العامة والمرحلة الجامعية يستطيعون تعليم الناس القراءة والكتابة.وبقليل من الجهد والإمكانات يساهمون في حل مشكلية قومية كهذه".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.