المدينة.. نداهة فاحشة الغواية.. تتنفس الجريمة.. تحترف البغاء.. تقتات علي الزيف والازدواجية بفعل تناوب الطغاة الذين أتقنوا تدجين الشعوب بدعوي الاستقرار، فويل للرعية عندما يفسد الراعي.. الحاكم.. الداعية أو الساقي عندما تهبط العقيدة من عليائها لتتحول إلي تجارة رخيصة.. عندما يلقن العجز واليأس فلايحلق الطير ولا تتحقق الأحلام، عندما يتم اغتصاب الوعي والضمير فيكون موات الروح، لتصبح المحروسة منهوبة.. القاهرة مقهورة، مترنحة، تهاوت عارية من قيمها فآلت للسقوط تحت وطأة القلم المبدع للأديب والقاضي أشرف العشماوي في أحدث رواياته االبارمانب وهي تجسد الأدب في أجمل حالاته.. والأدب بوصفه الفلسفة في أروع حالاتها.. تأتي تلك الرواية بعد االمرشدب التي تناول من خلالها العالم السفلي للخيانة. في االبارمانب المكان يحاكي الزمان.. فالمكان حانة تبدو مسحورة، خارج الزمن فالبار قبو أشبه بسرداب يبتلع الرواد أو النخبة الجديدة، التي ترتشف النسيم الليلي الملطخ بدخان الخدر والثمالة، هي النخبة المعربدة علي إيقاعات الجنس، السلطة والثروة ليصبح المشرب أقرب إلي علبة (بندورا) للشرود، حيث الغريزة آمرة، ناهية تطاع، فنجد المحامي الأشهر له مرجعية واقعية في المجتمع القاهري، أيضا الطبيب، والوزير والصحفي والضابط ورجال أعمال، وعاهرات ولصوصاً وشواذ، ونخاسين وعرابين والكل تحول إلي قطيع تتحكم فيه المصالح وأعتي الشهوات، فمن فحيح الرغبة إلي رنين الكئوس والضحكات الجامحة لأنثي يسكنها الخواء. أما الزمان 2005 حيث السنوات الحبلي بإرهاصات السقوط ووصمة الانتخابات، تلك المسرحيات الترسو التي شحذت سرعة الهبوط، في ص 19 سطّر أشرف العشماوي: اأمعن النظر ودقق لعله يري الرئيس.. مرت سيارات كثيرة متشابهات، ذات ستائر داكنة أحصي منها أربعين ثم تشتتت ولم يعرف بأيها كان يقبع سيادته.. تري هل هو غير موجود؟! هاهو القاص ينقلنا ببراعة إلي مرجعية تمتد إلي تراث ألف ليلة وليلة علي بابا والأربعين حرامي وبأسلوب غير مباشر يغدق علي القارئ بتلك الشفرات والطلاسم التي يتوحد فيها مع القارئ، فالعصر هو للصوص والحاكم لايحكم، أعطي ظهره لشعبه بل أصبح أقرب إلي شائعة أو وهم وسراب، لقد تخلي عن الأمانة أو الوديعة، هو أقرب إلي خيال المآتة ولكن في البرج العاجي، لقد عقد صفقة رجيمة مع جماعات الإظلام مضمونها خذوا الشعب واتركوا لي الكرسي! والستائر الداكنة!! تواري خلفها. ولكن هل يدوم الكرسي بدون شعب؟! الإجابة كانت في 25 يناير، البارمان أو الساقي هو ستيڤي ومنير في آن واحد القبطي الذي أسلم لزوم الزواج، بالنهار يعمل في الحلال يملك محلا لبيع ملابس المحجبات، وبالليل هو الساقي في المشرب فالعقيدة صارت مجرد تجارة حلال، ومن ثم هو يمزج بين الحلال والحرام! بمنتهي اليسر كما يمزج بين كوكتيل وآخر!! ذروة االازدواجيةب والنفاق، يتنكر عندما يأتي المساء بمباهجه ونشوته فيرتدي الباروكة والعيون الزجاجية الزرقاء، القناع الشمعي لنجد أنفسنا أمام إسقاط بديع لازدواجية، تزوير وتدليس الحاكم وتلك الأجواء الناضحة بالانتهازية والتلون ولا ينسي القاص أن يذكر أن البارمان منير يمر في سفرته اليومية لزوم التضليل علي عمر مكرم في التحرير ليراودنا شبح الموت الجاثم علي العاصمة التي صارت فصامية، منحوتة من صوان، فقدت إنسانيتها. إذن الساقي أتقن الخديعة، والمدينة تترنح بين اليأس والأمل.. الباطن والظاهر، الحقيقة والوهم، العطش والارتواء، الحلم والكابوس.. ولكن أشرف العشماوي من هؤلاء الذين أطلق عليهم المعذبون بالأمل، المعذبون بالحنين، وأرجع هنا افي انتظار جودوب لبكيت، فأشرف يفضحه الإهداء في الصفحة الأولي فالأمل يراوده والانتظار هاجسه بالرغم من أن المدينة غارقة في الإثم وأذكر ما سطره نجيب محفوظ: اعالم التقوي الظاهرة والفساد الكامن عجيبة هذه السلطنة بناسها وعفاريتها.. ترفع شعار الله وتغوص في الدنسب ويقول: اإن الرأس إذا صلح صلح الجسد كله فالصلاح والفساد يهبطان من أعليب في هذا النص الليلي البديع المسكون بايروتيكية فادحة، الكل مدان والخطأ تتبعه الخطيئة، فضمير القاضي هائم يهيمن علي النص المفعم بحسية لافحة لم أعهدها في إبداعاته السابقة، فهو يتقن التحولات الأدبية بثراء مدهش، وميزان العدل هو القرين الأثير لقلم القاص، والرواية مكتظة بالشخصيات المتنوعة وهو لايتوغل في غياهبها فهي تبدو منزوعة الروح، هي صاخبة، تقترف الضجيج والخطايا ولكن مصحوبة دوما بالخواء لأنها تضاهي القطيع المسير في اتجاه واحد.. الانحراف، أما منير فهو البطل الضد بامتياز وهو يربي الطيور ويمنعها من التحليق بدعوي الأمان في إسقاط آخر، فالمطلوب تدجين الشعوب ووأد الأحلام وتحويل المواطنين إلي كائنات عاجزة ملتصقة بأديم الأرض تبحث فقط عن الطعام والشراب، منتهي الحرمان والسادية عندما تنحر الحرية والإرادة، اختار الأديب الزمالك لتكون الحلبة الرئيسية للأحداث، كانت ذات يوم الجزيرة الراقية الارستقراطية، المرصعة بكل ماهو مليح وفاتن، ولكن الأعوام النافقة والنظام المطبع مع القبح سلب الزمالك سموها ورونقها فصارت ملاذا للغوغاء، الدهماء، ومن احترفوا التسول وترويج الممنوعات. أشرف العشماوي معذب بالنوستالوجيا، مخيلته مسكونة بالأيام الخوالي عندما كانت الزمالك أيقونة باهرة لمصر التي كانت قبل أن تحاصرها الأفاعي وينهشها الجراد. الزمالك كانت جزيرة عائمة علي ماء النيل الفضي الرقراق ولكن في االبارمانب هي عائمة علي ماء جف ونضب ليتحول إلي دماء وتصبح الزمالك مكانا لحفلات الدم، وإذا كان نجيب محفوظ حول الوطن في اثرثرة فوق النيلب إلي عوامة تتلقفها الأمواج الحبلي بالكارثة، هزيمة 67، ففي البارمان الزمالك جزيرة تتلقفها دماء الجريمة، والانحراف لتبزغ أحشاء المكان، ليصير القمر القاهري مخضبا بالدماء، فتقتل زينة تلك الأنثي، اللصة، وتموت ابنة محروس طالع النخل نتيجة الإجهاض والاغتصاب، أما صابر الذي صبر علي الغلب والبؤس المزمن فينحدر من خطيئة إلي خطيئة أفدح ويتهم بجريمة لم يقترفها، فالكل مذنبون، الطبيب مذنب والوزير، فهواء المحروسة ممسوس بالفساد، أما التعصب وكراهية الآخر وتكفيره فركيزة أساسية في النص مما يجعله شديد الرقي والإنسانية وحتي الجنس تناوله كان مقترنا بسمو جميل، أما الأسماء فمحملة بالرموز فمحروس طالع النخل الشامخ له مرجعية وطنية نسبة إلي المحروسة، ومحنة الوطن، وارحموا عزيز قوم ذل، عبدالوهاب الشاب المتعصب، المتطرف، ثمرة دعاة التكفير يرمز إلي الوهابية، منير اللا بطل هو يرمز إلي عكس اسمه فهو الإظلام بعينه والتغييب، فهو يبيع الوهم ويروج للحانة الشمطاء وللفرار من الواقع والمواجهة الشريفة للحياة الجادة، فالموت والخدر أسهل من الحياة لهؤلاء الذين يتقنون الهروب، والشخصيات كلها عدمية، منزوعة الروح تتوحد مع محجوب عبدالدائم الانتهازي العدمي في (القاهرة الجديدة) لنجيب محفوظ صاحب الشعار الأشهر (طظ)! والطريف أن فكرة البار التي ظهرت في أمريكا في القرن 19 ثم في فرنسا وهو أن يكون هناك الحاجز بين البارمان والرواد، الذي يشبه الحاجز بين القاضي والحضور.. منعا للمضايقات.. أما الشخصية الوحيدة صاحبة الروح والنقاء هي مريم حمالة الأسية ابنة منير ويستهل بها القاص الرواية وأيضا الخاتمة.. ففي الصفحة الأولي يحلق بنا أشرف من خلال حلم مريم في دوار مُسكر للڤالس ترفعنا إلي ذروة الرومانسية ثم نفيق لنصطدم بالواقع الدميم، ولكن تظل مريم المصلوبة علي جدران الزيف، الكبت العقائدي ومتاهة العشق المجهض، هي في البداية العذراء الحالمة.. وفي النهاية أثناء المحاكمة هي مريم المجدلية، ومن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.. الحوار في الرواية يحاكي المبارزة فهو نزال أدبي، في ص 138 يوصم الشيخ الدولة بدار الكفر ويرجم تهنئة الأقباط، أما عبدالوهاب فيعاير مريم بأنها نصرانية، وتقول هي: اعايز تدفني في النقاب علشان تحس برجولتكب.. وأخيرا تحمل الرواية استغاثة القاص والقاضي: امتي تفيقون؟ب نعم متي نفيق فكلنا مصلوبون علي حائط الكراهية، الفساد، والزيف!