أحذرك قبل أن تقرأ فالقصة مراوغة، وهذا لايعيبها في ذاتها بقدر إدانته لما تعكسه من واقع حياتنا في عالم متقلب طبع الناس والأشياء والدنيا من حولنا بطابع الزيف والانتهاز والمخاتلة، فصار عنوانه عدم اليقين والالتواء والتكلف والكذب. تجلي ذلك في عوالم الاجتماع والسياسة والثقافة والمعاملات وحتي سياسات الحكومات والدول والنظام العالمي، كما عند البشر كبارهم وصغارهم، لا فرق.لقد تخفي العالم وراء شعارات وعناوين خادعة كاذبة وتخلي عن إرثه القديم في »البحث عن الحقيقة» إلي محاولة »البحث عن أي قيمة أو معني» تبرر الهيمنة والاستبداد والتحكم في الناس واستغلال الشعوب وإخضاع الدول. لكأننا في رحلتنا الانسانية تحولنا من النظر إلي الكون الفسيح ومحاولة سبر أغواره، إلي العالم الضيق حولنا لتبرير أخطائه وأخطاره، من كبريات القضايا إلي صغارها، »من سؤال الحقيقة إلي البحث عن أي معني»، فيالها من كوميديا سوداء وفنتازيا العالم الموازي المصطنع، بما آلت إليه الأحداث والسياسات والمفاهيم والأفكار والرؤي والقضايا. ولعل في قصتنا مايجسد أزمتنا ويعكس واقع حياتنا وعالمنا، ولسوف أقدمها لك بنفس لغتها العامية حتي لاتفقد معناها. تقول الحكاية: دلف الرجل إلي محل البقالة ليقابله البقال البادي عليه أثر العمر الطويل من خلف زجاج ثلاجة العرض، ودار بينهما الحوار التالي: »لو سمحت ممكن ربع فلامنك.إشمعني فلامنك يعني؟. بحبها أنا بحب الجبنة الفلامنك.وعرفت منين إنك بتحبها أكلت الجبنة البيمستر الهولندي ولا الإمنتال السويسري؟ لأ ماكلتهاش.يبقي أنت مبتحبش الفلامنك، إنت متخيل إنك بتحبها عشان مجربتش الأحلي منها.مش فاهم. أفهمك، إنت مثلا متخيل إنك راجل محترم، بس إنت مش محترم ولا حاجة، كل الموضوع إنك متحطيتش تحت الضغط اللي يطلع النقص اللي جواك،زي الفرق ما بين الحرامي والشريف، الحرامي احتاج فلوس فسرق والشريف معاه فلوس فلسه مسرقش.إنت عايز إيه يا عم الحاج البقال؟.عايزك تعرف إنها ماشية بالستر يابني، إنت ذكي عشان اللي حواليك أغبي منك، مثقف عشان اللي حواليك أجهل منك، لكن في ظروف تانية وناس تانية كان ممكن تبقي جربوع واغبي واحد في الدنيا، الدنيا مفيهاش ثوابت غير إن كلنا هنموت، الفلامنك زي الإسطنبولي، الطعم ده وهم، إيحاء نفسي، الموضوع يتوقف علي قناعتك الشخصية إن اللي بتاكله ده طعمه حلو، طب تفسر بإيه إن فيه شعوب بتاكل ضفادع وصراصير؟ ولو حد فيهم جه هنا وعزمته علي كبدة وممبار ممكن يقرف أو يرجّع، ده وهم يابني صدقني، الفلامنك زي الإسطنبولي. طب انت عاوز توصل لايه من الآخر كده عشان أنا تعبت وبدأت أشك في نفسي وفي كل حاجة. أنا عاوز أقولك خد ربع إسطنبولي. ليه تاني؟. أصلي معنديش فلامنك». هنا انتهت القصة، لكن لم ينته سؤال المعني، فذلك البقال الأريب ليس لديه »فلامنك» وفاقد الشئ لايعطيه. لكن البائع هنا لايعترف بالنقص عنده، فيلجأ للمراوغة ويحمل الآخر مغبة نقصه بل يتمادي في تسفيهه والنيل منه والتقليل من احترامه وقناعاته ونزاهته ويشككه في ذاته، بل راح يفرض وصايته حتي علي ذائقته في نوع الجبن الذي يحبه. شئ من هذا يحدث في عالمنا المراوغ، وكأن في قصتنا تجسيد لما يفعله ترامب مع أوروبا وسورياوإيران والعراق واليمن وروسيا والصين وكافة الدول من حلفائه وأعدائه علي السواء، وحتي مع الكونجرس ونوابه ورجال إدارته الذين يقيلهم ويسفههم ومخابراته التي يراوغها علناً ويكذبها، لكأنه وحده الذي يعرف كما البقال في قصتنا، بينما العالم كله بالنسبة له كما صاحبنا سيئ الطالع الذي قادته قدماه ذات مساء أغبر إليه، لايعرف وعليه أن يكذب نفسه ليصدق شطحاته هو وادعاءاته. والقصة ماثلة أيضاً فيما حدث في فرنسا وحكومتها التي فرضت قصراً سياساتها الرأسمالية المتوحشة علي شعبها، ما أسفر عن ظهور أصحاب السترات الصفراء. إنها قصة الربع فلامنك متجسدة في كل ذلك وغيره مما يحدث في تونس وسياساتها، وما يحدث في السودان ومظاهراتها، وما يحدث من أردوجان بإصراره علي غزو »منبج» وفرض وصايته علي أكراد سوريا رغم أنف حكومتها. والقصة ماثلة أيضاً في إرهاب الدولة الذي يمارسه نتنياهو بضرب سوريا والاعتداء علي سيادتها لتحالفها مع إيران وحزب الله. وهي ظاهرة في مجالنا المصري العام، جلية في إعلامنا الفارغ من كل معني، المتطاول علي الناس بكل غباء وسطحية. الأمثلة كثيرة، والقصة رغم مراوغتها فهي موحية وملهمة، تحيلنا إلي سؤال المعني الغائب والقيمة المفقودة، وربما تشير بطرف ظاهر غير خفي إلي أننا نعيش عالماً يصدق فيه قولنا: »إنه عالم الربع فلامنك».