دخل مكتبي زميل شاب في عمر أبنائي، وجدته مكفهراً وعلامات الازدراء والتأفف بادية علي وجهه، سألته ماذا أصابك.. أجاب: القطار، اللعنة علي الزحام والشبابيك المكسرة وهواء الشتاء القاتل وسلوكيات الكثيرين في الصعود أو النزول أو حتي في جلستهم إن ظفر أحدهم بكرسي أو عدة سنتيمترات تتسع لوقفته. قلت له أعلم أنك تجيء يومياً من بلدكم في الشرقية الي مبني الجريدة في الاسعاف فما ثمن التذكرة، أجاب: جنيه ونصف الجنيه وعادة لا يستطيع الكمساري الوصول الي العدد الأكبر من الركاب الذين يركب معظمهم مجاناً ما لم يكن موظفا حكومياً أو طالباً يستخرج اشتراكا مقابل جنيهات معدودة كل عام، رددت عليه: احمد ربنا أنك تجد وسيلة مواصلات تأتي بك من بلدتك في الشرقية إلي وسط القاهرة مجاناً وحتي إذا دفعت الجنيه ونصف الجنيه فماذا يمثل هذا المبلغ الذي لا يتعدي ثمن سيجارة واحدة. وأفقت علي صرخة الشاب وهو يقول: يا استاذنا أنا تحت التمرين ولم أعين رسمياً في الجريدة حتي استطيع استخراج الاشتراك السنوي وليس أمامي سوي القطار فأنا لا أملك ثمن تسعيرة الميكروباص أو حتي لو كان توك توك وقد لا تكفي مكافآتي الشهرية من الجريدة أجرة الميكروباص أو الاوتوبيسات المخصصة بين المحافظات. حاسب علي محدودي الدخل، اوعي تقرب منهم، مش المهم زيادة أسعار الخدمات، حتي لو استمرت عقوداً عدة دون تغيير، وليس مهما شكل الخدمة ومراعاة أبسط قواعد الآدمية فيها. المهم أننا نقدمها بأسعار ثابتة لا نقترب منها خلينا نحكم وخلي الناس تعيش.. مهما كان شكل المعيشة أو عذاباتها. هكذا تعاملت حكومات تلو حكومات وأنظمة وراء أنظمة مع الاسعار الخدمية، البنزين مدعم يحصل عليه بتراب الفلوس الغني قبل الفقير، والاتوبيس وبعده المترو وخطوط السكك الحديدية يحصل علي دعمها القادر قبل غيره، المواد التموينية علي سوء حال البقوليات وغيرها كان لا يستفيد منها الا حفنة الموردين، يصل الدعم المخصص إلي جيوبهم، وما من بقال تموين إلا وصار مليونيراً. كانت رؤوسنا في الرمال ومعظم أفراد الشعب المعدمين صابرين وراضين بقليله وعندما أصبح من المستحيل استمرار نفس سياسة النعام وصار مجرد التفكير في تحريك السعر أو بمعني أدق زيادته مصيبة تنبري لها الأصوات قبل الاقلام. تري الحق علي من؟ من كان في مقدوره أن يزيد من تكلفة الخدمة عشرة قروش سنويا - مثلا - علي مدار أربعين عاماً، أم من تركها كما هي طوال هذه السنوات وصارت في حالة لا تجدي معها أية مسكنات. ونسأل: هل يكون الدعم عينيا أم مادياً، ومن هم المستحقون له بالفعل، وهل أسلوب الصدمات في زيادة أسعار مثل تذاكر القطارات سيكون هو الحل، أم نبدأ بشكل تدريجي لا يمثل عبئاً إضافياً علي الناس خاصة أن نسبة من هم تحت خط الفقر يزداد يوما بعد يوم.