في هذا الوطن علامات عظيمة في الفنون والعلوم والآداب. أولئك الباحثون دائما عن وطن أجمل. أولئك الذين يتفوقون فيما خلقهم الله له، وينفقون حياتهم كلها في البحث والعمل الدءوب وراء الفكر والأدب والفن والعلوم الجديدة من أجل حياة أفضل، ووطن يخايلهم دائما يريدون أن يبلغوا به السحاب. دعك مما يحدث في السياسة من نكبات تعيد الوطن إلي الخلف دائما فهؤلاء لن يضيع ما فعلوه، وستظل الأجيال تقرأهم وتعرفهم وتتعلم منهم وتعيش علي أمل أجمل في الحياة قد يتحقق. إن أي مقارنة بين ما يقدمه الفن والعلم في هذا الوطن وما تفعله السياسة تطلعك علي كم كان ولايزال هؤلاء العظماء قابضين علي الجمر لا تغريهم تجارة ولا مال ولا منصب. ومن هؤلاء الناقد الفني الكبير والمعلم للأجيال سمير فريد الذي في روحي له محبة قديمة تجدد دائما انغرست في قلبي منذ أول مقال قرأته له أيام الشباب في مجلة »الطليعة» أواخر الستينات أو أوائل السبعينات. لا أذكر بالضبط. كان يكتب من قبل في جريدة الجمهورية لكن مجلة الطليعة اليسارية كانت مجلة جيلنا نحن الذين حلمنا ولانزال بوطن أفضل. أخذني سمير فريد إلي ما كان غائبا عني أنا هاوي الفرجة علي الأفلام منذ الطفولة والذي حضرت عروضا سينمائية أكثر مما حضرت دروسا في المدرسة. مع مقالات سمير فريد بدأت أدرك أبعادا غائبة عني في هذا الفن السينمائي. أبعادا في التصوير والسيناريو والتمثيل والإخراج بشكل عام. ومع سمير فريد التحقت بمن لا يرون فارقا بين الفنون السبعة. وإذا كانت السينما هي الفن السابع فمع سمير فريد عرفت علاقة السينما بالأدب والفنون التشكيلية والتصوير والمسرح والشعر أيضا في الصورة التي أمامي. واظبت علي قراءته ومنه انطلقت إلي نقاد آخرين مثل مصطفي درويش والمرحوم فتحي فرج وغيرهما ونقاد بعده مثل علي أبو شادي وكمال رمزي وأمير العمري وبعدهم وحتي الآن مثل طارق الشناوي وعصام زكريا وكثيرين غيرهم لكن سمير فريد هو الذي أخذ بي إلي فهم هذا العالم الساحر الذي حين تفهمه تبلغ متعتك به السماء. ليس عالم السينما التي عرفتها منذ الطفولة لكن عالم الفهم لهذا الفن فهما يتجاوز التسلية والفرجة إلي أبعاد فلسفية عظيمة وإنسانية أعظم. من مقالاته ذلك الوقت عرفت سينما المؤلف وعرفت الواقعية الإيطالية والواقعية الجديدة ومن مقالاته رحت أبحث عن مخرجين قدامي مثل ديفيد لين أعيد رؤيتهم في كل فرصة مهرجان ومحدثين مثل كوستا جافراس وفرانسيس فورد كوبولا وقائمة تطول جدا سأنشرها يوما في كتاب نشرت منه عدة فصول وأسميته »أنا والسينما» وسأنشره قريبا. وحين جئت إلي القاهرة في أوائل السبعينات كان مقالات سمير فريد هي سبب جريي وراء نادي السينما من الكنيسة الكاثوليكية في وسط البلد إلي قاعة إيوارت في الجامعة الأمريكية إلي جمعية الفيلم. صارت السينما عشقي الكبير ودخلت في زمرة الجيل الذي لا يري فارقا بين السينما والأدب وسائر الفنون إلا في مادتها التي تتناول به موضوعها. منذ هذا الوقت أقرأ لسمير فريد مقالاته وأضفت إليها كتبه الغزيرة الرائعة التي كانت بمثابة وجبة نهائية في موضوعها سواء كانت عن »الواقعية الجديدة في السينما» أو »أدباء مصر والسينما» أو »أدباء العالم في السينما» أو »تاريخ الرقابة علي السينما» أو قضايا سياسية علي شاشة السينما أو السينما والفنون » أو »السينما العربية المعاصرة» أو »الصراع العربي الصهيوني في السينما» أو »السينما في دول الاتحاد الأوربي» أو »مدخل إلي تاريخ السينما العربية» أو »أعلام الإخراج السينمائي» أو »نجوم وأساطير في السينما المصرية» أو »سينما الربيع العربي» وغيرها عن سعاد حسني وزوزو حمدي الحكيم وصبحي شفيق الناقد الكبير ومثله فتحي فرج أو عن مؤسسات السينما في الاتحاد الأوربي أو تيارات السينما في الاتحاد الأوربي وغيرها كثير من الموضوعات العالمية. كل كتاب منها يغنيك عن عشرات الكتب ومئات المقالات في موضوعها وكل كتاب منها مدرسة في موضوعه لغة بسيطة تضع الصعب من الفكر بين يديك وتقدم لك ما هو غائب من تفسير وفهم. في كل ذلك كان ولايزال سمير فريد مثل الراهب الذي يغنيه التبتل وعبادته عن أي شيء في هذا العالم الردئ فلم نسمع يوما عن معركة خاضها من أجل منصب ولا جاه ولا أي شيء غير أن ينقطع لمحرابه يعلمنا ويعلم الأجيال أن ما نراه علي الشاشة فيه من الجمال ما يجعلك تنظر حولك في غضب أو في أمل وفي كل الأحوال يحرك فيك الرغبة للرؤية والمعرفة فيتسع بك العالم ولا تكون ابن مهنة واحدة أديبا أو شاعرا فقط وبالطبع كل المهن الأخري لمن قرأ ويقرأ سمير فريد. أقول هذا الكلام وأنا أهنئه بجائزة » كاميرا البرلينالي» التي جاءته مؤخرا في مهرجان برلين السينمائي تكريما لدوره الرائد في السينما العربية هو الذي حصل من قبل علي أكثر من تكريم وجائزة منها الميدالية الذهبية في مهرجان كان والجائزة التقديرية في الهند وفي مصر حصل علي جائزة الدولة التقديرية. الجوائز تأتي وساما علي صدر صاحبها لكنها أيضا في حالة مثل حالة سمير فريد فهو وسام لها بعلمه وكتاباته التي استشرفت دائما كل جميل وبحثت دائما عن كل جميل. أجل. لم يكن سمير فريد فيما كتبه ويكتبه يبحث في السينما فقط لكنه كان يبحث عن طرق وممرات جميلة في حياتنا الصعبة التي تزداد ضيقا كل يوم. فتحية متأخرة لسمير فريد الذي فتح ويفتح منارات الفن والعلم لكل قرائه ومتابعيه والذي كان ولايزال بكتاباته عن السينما الجميلة وأهلها من الفنانين والكتب والمخرجين يؤكد دائما دون أن يقول إن هناك وطنا أجمل وإمكانية لوجود هذا الوطن.