عندما يشتري البرلمان ثلاث سيارات مصفحة لرئيسه ووكيليه بمبلغ 18 مليون جنيه بأسعار ما قبل التعويم، أي ما يتجاوز 40 مليون جنيه بالأسعار الحالية، فهذا يعني أننا أمام مشكلة كبيرة تتعلق بمصداقية المجلس الذي من المفترض أنه يمثل الشعب ويدافع عن مصالحه ويتصدي للحكومة إذا أخطأت أو فسدت أو تعسفت في قراراتها وجارت علي الشعب كما فعلت في قرارها غير المدروس بتعويم الجنيه دون التحسب للعواقب القاسية لهذا القرار.. والمؤكد أن البرلمان الذي يمارس السفه والتبذير لا يمكنه أخلاقياً أو منطقياً مطالبة الحكومة بالتقشف وضغط النفقات ليس فقط لأننا "فقرا قوي قوي" كما يقول رئيس الجمهورية، ولكن أيضاً لأن الأصل في الأشياء هو أن يحافظ ممثلو الشعب علي مال الشعب ويحاسبوا ويحاكموا كل من ينفقه في غير محله أو في ما هو غير ضروري ومُلِح.. وخاصة أننا دولة مدينة ونتلقي قروضاً مشروطة وبالغة الكُلفة علي الجيل الحالي والأجيال القادمة!!.. وفي كل الأحوال لا يمكن قبول الإنفاق بهذا السفه من مال شعب لا يكاد يجد قوت يومه، علي تأمين أي شخص مهما كانت مكانته.. ويبدو أننا كنا مخطئين أو حالمين عندما توقعنا الكثير من الإنجازات من هذا البرلمان بالذات الذي أتي بعد ثورتين شعبيتين طالبتا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.. فالملايين التي احتشدت في الشوارع والميادين ولامست أحلامها عنان السماء كانت تتمني وتتوقع نهضة حقيقية في التعليم والاقتصاد والخدمات وتحسين مستوي المعيشة.. ولكنها أفاقت من هذا الحلم الجميل علي واقع محبِط وصادم حين فوجئت ببرلمان لا ينتمي للناس ولا يحس بمعاناتهم وعذابهم اليومي من أجل تأمين ضرورات الحياة كالغذاء والدواء، ناهيك عن حماسه الشديد لزيادة مكافآت النواب ومرتبات الوزراء والانحياز للمستثمرين ورجال الأعمال علي حساب محدودي ومعدومي الدخل الذين صدمهم بقانون الخدمة المدنية وضريبة القيمة المُضافة فضلا عن تقاعسه عن محاسبة الحكومة والتصدي لتنكيلها بالشعب عبر قرارات اقتصادية مفاجئة قلبت حياة الناس رأساً علي عقب وأشعلت نار غلاء طال لهيبها الجميع، ولكنها أصابت بشكل خاص الموظفين وأصحاب المعاشات والفلاحين والعمال الذين استيقظوا علي صدمة انهيار مرتباتهم ومعاشاتهم ودخولهم ومدخراتهم بنسبة تزيد علي 60 %!!.. وزاد الطين بلة أن الأسعار ارتفعت بما يتجاوز كثيراً هذه النسبة لأن الرقابة الحكومية علي الأسواق غائبة تماماً بل باتت مُحرمة ومُجرمة من قِبَل دراويش صندوق النقد والتجار والسماسرة الذين يديرون دفة الاقتصاد بصورة لا مثيل لها في العالم.. والأدهي أنهم يحاولون إقناعنا بأن تلك هي حرية السوق ناسين أو متناسين أن ألف باء السوق الحرة هي الشفافية والإفصاح وتجريم الاحتكار وفرض ضرائب تصاعدية وخاصة علي أرباح البورصة!!.. نحن إذاً أمام وضع فوضوي بامتياز.. فلا حكومة تراقب الأسواق.. ولا برلمان يراقب الحكومة ويُلزِمها بكبح انفلات الأسعار وتبني خطة صارمة للتقشف، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه!!.. وأرجو أن يُدرك أعضاء البرلمان قبل فوات الأوان أنه لا سبيل لخروجنا من هذا المأزق البالغ التعقيد إلا بإلزام الحكومة بالمراجعة الفورية لقراراتها الاقتصادية الكارثية الأخيرة واعتماد خطة طوارئ تتضمن إجراءات تقشفية صارمة وتجميد أسعار الكهرباء والغاز والمياه - وأنا أكتب هذا المقال تسلمتُ فاتورة الغاز الطبيعي بزيادة 100% تقريباً (من 27 إلي 49 جنيهاً) ودفعتُ صاغراً وأنا أدعو علي الحكومة!!) ، وكذلك تقليل عدد الوزارات بدمج حقائب متداخلة الاختصاصات مثل التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والسياحة والآثار والطيران.. مع حظر شراء سيارات فارهة لكبار المسئولين وزيادة دعم المزارعين والمواد الأساسية علي بطاقات التموين.. ففي ظروف مثل ظروفنا لا يستقيم أبداً أن يكون التقشف الحكومي والبرلماني فريضة غائبة!!..