وما فائدة الكتابة إذا كان مَن نخاطبهم لا يقرأون وإن تصادف وقرأوا لا يحركون ساكناً؟!.. وإلي متي سنظل نصرخ في البرية دون مجيب؟!!.. ربما لا أُكون مبالغاً إن وصفتُ فعل الكتابة ذاته بأنه مهمة بالغة الصعوبة والإيلام خاصة عندما نُضطر إلي تكرار تأكيد البديهيات.. وأنا شخصياً تعبتُ جداً من العود علي البدء والدوران في الحلقات المفرغة وكأني "سيزيف" في دوامته اللانهائية!!.. هذا المدخل يقودنا مباشرة إلي جوهر الأزمة التي نعاني منها والتي ستنفجر في وجوهنا جميعاً ما لم يتحرك المخلصون لهذا الوطن ويتصدون لمهمة الإنقاذ.. ولكي ننقذ هذا الوطن من الأزمات الوجودية الخطيرة التي تحاصره يتعين توفر الإرادة والرؤية.. غياب الإرادة يحولنا إلي أمة عاجزة لا حول لها ولا قوة تتقافز علي أكتافها الجرذان ويتطاول عليها العبيد والخصيان والعملاء الذين يتصورون أن البترودولارات يمكن أن تشتري نفوذاً أو مكانة أو ريادة!!.. وللإرادة في حياة المصريين حكاية تعود بنا إلي عام 67 عندما تعرض جيشنا لهزيمة ساحقة نتيجة فساد القيادة وتدخلها الفج والضار في الحياة المدنية.. ضربة كان يمكنها القضاء علي مصر قضاءً مبرماً.. ولكن إرادة القيادة التي امتلكت شجاعة الإعتراف بالخطأ ثم إرادة الشعب–الذي رفض الإستسلام وخرج بالملايين مُؤكداً "هنحارب.. هنحارب" كانت مفتاح معجزة العبور التي تحققت بعد ست سنوات فقط تخللتها "حرب الإستنزاف" المجيدة التي تلاحم فيها الجيش المُطَعَم بحَمَلَة المؤهلات العليا مع الشعب الذي ربط الأحزمة علي البطون لغسل عار الهزيمة.. أما البطل المجهول في ملحمة "الإستنزاف" فهو القطاع العام الذي مَوَّلَ المجهود الحربي وأمَّنَ الجبهة الداخلية وساهم في تخفيف الآثار الاقتصادية القاسية أثناء سنوات الحرب وبعدها.. ولذلك تَعَمَدَ مهندسو "كارثة كامب ديفيد" وأد "روح أكتوبر" وتصفية القطاع العام وإسدال ستائر النسيان علي حرب الاستنزاف كي ينسي المصريون مركز قوتهم الاقتصادية وسر نصرهم الحربي!!.. هذا عن الإرادة التي لا تُجدي فتيلاً ما لم تصاحبها رؤية شاملة تستوعب دروس التاريخ وترسم طريقاً للمستقبل يستنهض الهمم ويستلهم روح "التحرير" التي فجرتها الثورة الأعظم في تاريخهم سعياً لتحقيق مطالبها بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية واستقلال القرار الوطني.. وإذا كانت معجزة العبور قد تحققت بالعلم (تجنيد المؤهلات العليا) والإعتماد علي القطاع العام، فما أحوجنا الآن لهذين المحورين للخروج من هذا النفق المظلم الذي حشرتنا فيه سياسات وحكومات ما بعد "كامب ديفيد".. نعم.. نحن في حاجة إلي رؤية تستثمر الإمكانات الهائلة التي بين أيدينا والتي جرفتها وبددتها مشروعات التبعية والإقتراض وأباطرة الفساد وسماسرة الإستيراد الذين نجحوا في اختراق دوائر صنع القرار وإقناع حكومات "الموظفين" بأن إستيراد القمح خير من زراعته وشراء السكر من الخارج أكثر ربحاً من دعم مزارعي القصب واحتكار التجار لمحصول الأرز هو جوهر حرية السوق التي سيكافئنا عنها صندوق النقد والبنك الدوليان!!.. وإذا كنا نعاني الآن من أزمة حادة في السكر والأرز ناهيك عن زيادة أسعار السلع والخدمات بصورة مبالغ فيها جعلت المواطنين يجأرون بالشكوي ويكلمون أنفسهم في الشوارع، فإن القادم أسوأ بما لا يقاس إذا لم نتخلص من حكومات "الموظفين" الفاشلة التي لا تملك أي رؤية أو قدرة علي الابتكار والتفكير خارج الصندوق بل تنتظر الأوامر والتوجيهات العليا حتي في أتفه الأمور!!.. فعندما يهدد الفلاحون بحرق القصب والتحول لزراعة الموز ويفكرون في تبوير الأرض "المقدسة" أو بيعها والبناء عليها فلن يبقي لنا أي مورد اقتصادي ذي بال بعد تدمير الصناعة وتدهور السياحة.. وأخيراً..لا مفر من العودة لتأكيد البديهيات وضرورة توفر الإرادة والرؤية القائمة علي العلم والإبداع حتي لا يضيعنا مَن لا يجيدون سوي انتظار الأوامر لتنفيذها حتي ولو كانت غلط!!..