أعرف أن ما أقدمه من تحليل في هذا المقال يحمل رؤية مغايرة لما صدرعن مراكز التفكير والدراسات والصحافة والميديا الأمريكية والعالمية، وأخشي أن يسبب صدمة أخري فوق صدمة العالم بفوز دونالد ترامب، ذلك أن كثيرين من كتابنا المرموقين ذهبوا إلي أن فوزترامب يعد ثورة علي المؤسسة الأمريكية بكل أجهزتها ومراكزها ولوبياتها الفاعلة والمؤثرة، وأنه إيذان بتصدع قريب للمؤسسة الأمريكية »الدولة الأمريكية العميقة» ومراكز تحكمها. وذهب البعض إلي أن أمريكا استدعت »حفار قبرها» وآخرون رأوا أن فوز ترامب يشبه نجاح مرسي ويناقض القيم الديمقراطية. بينما ما نراه يأتي علي خلاف ذلك، فتقديري أن فوز ترامب لم يكن خروجاً أو ثورة علي المؤسسة الأمريكية الضخمة، بل هو اختيار المؤسسة نفسها التي رأت ضرورة تجديد ذاتها من الداخل للحفاظ علي ما تبقي من أميركا بعد ما فقدت من تأثير وقدرات أضعفتها اقتصادياً وسياسياً واستراتيجيا، وصلت معها أمريكا إلي حافة الهاوية في ظل سنوات جورج بوش الابن وبعده أوباما الذي كان أيضاً محاولة بائسة من الدولة الأمريكية العميقة لتغيير قواعد اللعبة ومخاتلة العالم بالرئيس الأسود الكاثوليكي المشكوك في نسبه الإفريقي المسلم ليقوم بدور مرسوم في إعادة رسم خرائط القوي الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط الجديد وسايكس بيكو جديدة تؤسس للسيادة الأمريكية المطلقة مع حلفائها الإسلاميين في الخليج وتركيا ومصر، وكانت الصدمة بفشل هذا النموذج الذي حاولوا الترويج له والذي جاء حصاده مراً قزم أميركا في الشرق الأوسط بفشل محاولاتها في الفوضي الخلاقة وركوب موجة الربيع العربي، وصغر بها أمام حلفائها الأوربيين وخسرت نقاطاً استراتيجية متتالية أمام عدوها التقليدي »روسيا» في القرم وأوكرانيا وسوريا والعراق والسعودية واليمن وإيران. قضم بوتين القرم في لحظة خاطفة وانتصر في الحرب الأوكرانية ولاعب حلف شمال الأطلنطي وضرب داعش بقوة أسقطت ورقة التوت عن السياسات الأمريكية الداعمة للإرهاب ومعها التحالف الدولي الشكلي المخاتل، فاز بوتين علي النظام الأمريكي لا بضربة قاضية هو بالفعل لايستطيعها، إنما فاز بالنقاط، وحصل علي جائزته ببقاء الأسد والإطلال بأساطيله وقواعده العسكرية علي المياه الدافئة في طرطوس وحميميم، وعقد حلفاً استراتيجيا مع القوي الناهضة، الصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، وأسس معهم البنك الأوروأسيوي وضم معها مجموعة شنغهاي وتحالف مع إيران ولعب دوراً مهدداً للنفوذ الأمريكي وتلاعب به. خسرت أمريكا حلفائها التقليديين في المنطقة الذين انتهزوا فرصة السياسات الأمريكية الغبية الجوفاء فخرجوا من العباءة الأمريكية وحرروا قرارهم السياسي ونوعوا مصادر السلاح مع روسياوالصين وفرنسا وكوريا وغيرها مما أخل بالتوازن الاستراتيجي الذي لطالما حافظت أمريكا علي استمراره في الشرق الأوسط، وجاء علي حساب خسائر اقتصادية لأمريكا ليحتل ناتجها القومي العام ربع اقتصاد العالم بعد أن تجاوز لسنوات 40% منه، وبالضرورة هذا لم يرق المجمع الصناعي التجاري العسكري »الكوربوقراط» أو حكم المؤسسات الصناعية والبنوك، الذي يعد من أقوي مراكز المؤسسة الأمريكية لصنع القرار، أو الدولة الأمريكية العميقة مع البنتاجون والمخابرات المركزية الأمريكية. ولقد كاتبتك هنا منذ شهور عن محاولات أوروبية نشطة للخروج من العباءة الأمريكية اقتصاديا وسياسياً مع بقائها علي حلف شمال الأطلنطي قائماً، وحللنا المواقف الفرنسية والألمانية وغيرها في أوروبا وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وكلها محاولات بقدر مالا يتسع المقال لتعديدها بقدر ما كانت خصماً من هيبة وتأثير الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي وقفت بغباء ضد إرادة الشعوب فكذبت وتحايلت ودلست ولفقت وادعت ووعدت واخلفت، واستخدمت أحط السياسات في دعم الإرهاب وخلق داعش كما أسست القاعدة من قبل وتدخلت في الشأن الداخلي لحلفائها وتخندقت في الموضع الخطأ مع التنظيم الدولي للإخوان والإسلام السياسي، وكانت النتيجة أن تمدد الإرهاب ليطولها وحلفائها الأوروبيين عبر المتوسط. وتلقت درساً موجعاً من مصر في 30 يونيو، وفشلت كل مخططاتها للشرق الأوسط الجديد وتقسيم العالم العربي، حتي الحرب الطائفية سنة وشيعة فشلت في تصعيدها.الوقائع والمفارقات أكثر مما يستطيع المقال حصره، لكنك تستطيع تجميع الدلائل والإشارات علي تآكل الدور الأمريكي كقوة عظمي مما أشعر الدولة الأمريكية العميقة »المؤسسة الكبري» بضرورة التحرك بسرعة لتغيير قواعد اللعبة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولعلها تذرعت بمقولتنا التراثية »بيدي لا بيد عمرو» وعمرو هنا بوتين والصينوإيران وكوريا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط وفي مقدمته مصر وإيران واتفاقها النووي، وتركيا وارتمائها في أحضان روسيا خروجاً علي قواعد حلف الناتو الصارمة وغيرها. لقد تحركت الدولة الأمريكية العميقة مبكراً للتمهيد لتغيير قواعد اللعبة وإنقاذ المؤسسة الأمريكية، هل تذكرون »جوليان آسانج» في 2010 وتسريبات ويكي ليكس بالوثائق والصور التي أغرقت العالم وأحرجت النظام الأمريكي القائم؟ هل كان آسانج يعمل وحده؟ هل تذكرون »إدوارد سنودن» عميل المخابرات المركزية وفضائح التجسس الأمريكي علي المواطنين ورؤساء الدول الحليفة منذ 2013؟ هل كان يعمل وحده؟. هل تذكرون الخروج المفاجئ لبريطانيا من الاتحادالأوروبي؟ ودور »بوريس جونسون» في التمهيد والإعداد له، ثم أصبح وزيراً للخارجية وتصريحاته التي قال فيها إن »أصول الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الكينية، جعلته يكره تراث بريطانيا وتاريخها». وقد شبه هيلاري كلينتون، »بممرضة سادية تعمل في مصحة للأمراض العقلية». وقال »الاتحاد الأوروبي »مشروع زعيم النازية، أدولف هيتلر»، الذي حاول، علي حد تعبيره، »إنشاء دولة أوروبية واحدة». إنها محاولات مبكرة لتوجيه ضربة للديمقراطيين الذين نجحوا في التخندق في البيت الأبيض ويريدون استمرارهم فيه، ومحاولة لتقزيم الاتحادالأوروبي وتطويعه للمرشح الجديد الذي يستعيد القيم الأمريكية »الواسب» أي أن يكون الرئيس أبيض، أنجلوا ساكسون، بروتستانت. من هنا جاء اختيار »المؤسسة» لشخص من خارج السياق السياسي الحالي لأمريكا، خريج البحرية الأمريكية، علي علاقات وثيقة بالعسكريين المتقاعدين، ورجال المال والأعمال والصناعة، أي قريب من البنتاجون والكوربوقراط، يسهل للأجهزة السيطرة عليه بما له من مصالح مالية كبري وأيضاً مخالفات وأخطاء كبري. ولأنه مقتنع أن أمريكا في أزمة، تركوا له العنان ليصدم العالم برؤيته وأفكاره، لكنها الأفكار نفسها التي كان يحسها المواطن الأمريكي البسيط والبعيد عن توجهات هيلاري وأوباما اللذين هددت سياستهما مورد رزقه ودخله وتجسسوا علي مكالماته وبريده الإلكتروني. كانت تصريحاته وشطحاته أهم وأكبر حملة إعلانية عنه. عندما وقفت الصحافة والميديا الأمريكية في أغلبها الأعم مع هيلاري، كان ذلك بتخطيط من الدولة العميقة لتفوز هي بترشيح الحزب الديموقراطي ويقطعوا الطريق علي »برني ساندرز» بأطروحاته وتوجهاته اليسارية التي حتماً تصطدم مع أسس ودعائم الدولة الأمريكية العميقة. هل تذكرون أن الذي قدم دليل إدانة هيلاري بشأن بريدها الإلكتروني هو »جيمس كومي» رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي؟ هل كان يتصرف هكذا وحده؟ وهل توعده أوباما بالرفت إلا لأنه أوجعه وضربه في مقتل في وقت قاتل. خلاصة القول أن دونالد ترامب جاء بخطة محكمة من الدولة الأمريكية العميقة، وهو اختيارها والرجل الذي استودعت فيه سرها لاستعادة العصر الأمريكي بقيادتها ومصداقيتها وقيمها، وتطويع أوروبا وعدم الدخول في مواجهة مع روسياوالصين والدول الناهضة، ومحاربة جادة للإرهاب وتعديل السياسات مع الشرق الأوسط وفي المقدمة مصر، مما يتطلب أن تأتي سياساته الاستراتيجية علي خلاف خطاباته الانتخابية، ولعل ترشيحات فريقه الرئاسي وتصريحاته بعد الفوز تؤكد هذا التوجه. ولعلها إشارة لنظام عالمي جديد كنا قد بشرنا بإرهاصاته وشواهده في مقالات سابقة.