أطلق السيد ترامب عشرات التصريحات المثيرة، قدم فيها نفسه كبديل للنخبة. فالملياردير الأمريكي وضع نفسه في تناقض كامل مع نخبة المثقفين المستأثرين بالإعلام والسياسة في واشنطن، وصانعي قيم النخب حول العالم. وشملت تصريحاته الصادمة كل جوانب الحياة في الولاياتالمتحدة وعلي ظهر الكوكب تقريبا فكان له أو لأنصاره رأي يمتد من الإجهاض إلي حبوب منع الحمل للضرائب وفرض الجمارك علي الاستيراد للولايات المتحدة. وفي مناخ الأزمة الاقتصادية العميقة تبني شعارات العداء للهجرة غير المشروعة وفي مناخ الحروب التي تبتلع العالم وتقذف بالمهاجرين من أوطانهم رفع شعارات منع دخول المسلمين وتقييد هجرة المكسيكيين إلي الولاياتالمتحدة. لم يترك الرجل أمراً إلا وأثار الجدل فيه. والحقيقية أن ما يمكن لرئيس الولاياتالمتحدة تحقيقه هو محدود في عمومه، حتي لو بقي علي رأسها ما يقرب من عشر سنوات كما حدث مع أوباما. فلقد فشل أوباما مثلاً في منع الأمريكيين من اقتناء السلاح الشخصي، فهل من الممكن التعامل مع تصريحات ترامب بجدية؟ وما هي التغييرات التي ستتم فعلاً؟ وما الذي سيؤثر علينا منها في الشرق الأوسط؟ تميل أغلب دوائر الإعلام إلي تصوير أن انتصار ترامب هو حدث انتخابي تم نتيجة تغيير في مزاج الجماهير والناخبين؛ ولكن الحقيقة هي أن هناك مقدمات مهمة تشير إلي أن التغيير كان ضرورياً إن لم يكن حتمياً في الإٌدارة الأمريكية. فملايين الناس حول العالم يعجزون عن تصور أن الولاياتالمتحدة تواجه أزمة خطيرة، أزمة من صنع سياساتها هي ذاتها. فالولاياتالمتحدة علي حافة الإفلاس كساداً وتواجه حقيقة انتهاء عصر القطب الواحد. ونهاية هذا العصر تستدعي إعادة ترتيب العالم وأشكاله السياسية من (حلف الأطلنطي) (للسوق الأوروبية المشتركة) (لمنطقة البترودولار) بصحاريها ووديانها ومصر وإسرائيل في قلبها. ولربما يبدو أن تصور أن الولاياتالمتحدة تستطيع ألخوض في تلك التغييرات الهائلة حول العالم هو نوع من الشطحات الفكرية. إلا أن الدلائل تحاصر المتتبع للأمور بالظواهر التي تشير الي أن هذا ما يحدث فعليا وأن هذا ما تدركه القوي العظمي المتصارعة حول الكون. فأي ترتيب سياسي أو برلماني أو في المؤسسات الدولية حول العالم هو ناتج توازنات للقوي ومعبر عن مصالح قوي بعينها. وإذا كان غزو الدول كالعراق مثلا او ليبيا ممكنا فإن إعادة ترتيب الأوضاع السياسية لحلفاء الولاياتالمتحدة وارد حقا وممكن فعلا. ولقد ظهرت مقدمات هذا التغيير بوضوح في بريطانيا، فهي الحليف الأقرب للولايات المتحدة. فخلال أسابيع خرجت بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة باستفتاء ثم تبعه نجاح دونالد ترامب المذهل علي الرغم من كل توقعات الخبراء والسياسيين بالعكس في الحالتين. فهل الأمر مصادفة أم أنه ترتيب دقيق للإجابة عن تراجع غربي مربك وخطير أمام صعود روسيا وحليفتها الصين وحلاً لتورط وتوريط الولاياتالمتحدة لأسر البترودولار الشرقية في حروب بالوكالة من خلال المرتزقة المسلمين في سوريا وليبيا ومصر واليمن والعراق. لقد كانت هناك مقدمات أخري في عصر أوباما ذاته، فهناك إشارات كثيرة لتساؤلات أوباما ومن حوله عن حكمة السياسة الأمريكية وتوجهاتها وانحيازاتها من الشرق الأوسط للصين، وتساؤلات عن الضرر الذي يسببه حلفاء أمريكا من أسر البترودولار لها؟ وإن بعض أولئك هم (خارج روح العصر) وتساؤلات أخري عن إسرائيل؟ فهل القضية هي سيادة إسرائيل أم الهبوط الآمن لها؟ هذا بالطبع إلي جانب التساؤل الدائم والموجع عن الكارثة الإستراتيجية التي سببها غزو العراقلأمريكا. تصريحات ترامب بشأن الشرق الأوسط ووصفه للإخوان المسلمين وللإسلام السياسي ككارثة هي استمرار لفكر يسبق تصريحاته، وقد يكون ترامب باغترابه عن النخبة هو الآلية السياسية لتنفيذ انسحاب سياسي أتي أوانه. انسحاب يتم دون إراقة ماء وجه أمريكا أو إهانتها. فلقد صار الدفاع عن عبء العلاقة مع الإخوان المسلمين ولبعض تحالفات منطقة البترودولار ثقيلاً إن لم يكن مستحيلا. ولقد ابتز ترامب ذاته منظري ومنفذي الكارثة الليبية والسورية بشكل مبطن؛ فلقد كان واعيا بالطبع بصراع أوباما مع هيلاري كلينتون وبتسريبات أسانج وبعناد روسيا. تصريحات ترامب وسخريته من قناة الجزيرة ومن شعارات كلينتون الليبرالية وتصريحاته الإيجابية بشأن مصر هي أيضاً دلالات مهمة. وتبقي معضلة البترودولار وما صاحبها من حرب بالوكالة في سوريا بالمرتزقة الإسلاميين. وتبقي المعلومات المتوافرة دولياً عن تمويل ذلك الإرهاب مالياً والتغطية عليه بفيلق العمل الديمقراطي ومنظريه وناشطيه حول العالم من مصر للدوحة لبيروت وباريس. مصالح الولاياتالمتحدة تستدعي التخلص من تلك الأعباء الدموية ومن إرثها هي ذاتها فيه وإخفاء حقائقه المالية والإعلامية إلي الأبد. فهل تستطيع اليد الأمريكية إغلاق منابع المال لآليات صنع الدم؟ الإجابة هي أنها بالقطع قادرة، وأن من صالحها ابتزاز من تورطوا والذين راهنوا علي جواد أمريكي آخر. هناك أيضاً دلائل أن الحسم سيكون سريعاً في سوريا؛ فكل هذا يتم والدب الروسي ذو العيون الحمر يقف مزمجراً عنيداً. وتبقي مصر والتي كانت فاعلاً أساسياً في نزع قفاز الإخوان المسلمين وحلفائهم الليبراليين الجدد وحيدة صامدة وسط بحر متسارع من الرمال والأحداث الدولية، تحتاج فيه إلي بناء جبهة وطنية متحدة تحدد (توجهات جديدة للدولة المصرية). لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;