كان ترحيب المصريين بنجاح السيد/ترامب فى الانتخابات الأمريكية مما ينطبق عليه القول: «ليس حباً فى على إنما كرهاً فى معاوية». فالسيدة كلينتون دخلت بوابة السياسة فى الشرق الأوسط عبر ميدان التحرير يوم الأربعاء 16 مارس 2011 عندما حضرت إلى القاهرة تتجول فى الميدان الأشهر. لم تدرك السيدة البارزة أن صورها فى القاهرة كانت استفزازا لقطاع واسع من مصريين آخرين اعتبروا أن المشهد كله يعود للعصور الوسطى، حيث كان الأباطرة والغزاة المنتصرون يسيرون فى ربوع البلاد والمدن التى قهروها ففقدت استقلالها وسيادتها. كان للسيدة الطموحة حلمٌ وهو أن تكون أول امرأة تتولى سدة الأمور فى الولاياتالمتحدة وكان الشرق الأوسط ومصر هم المسرح المعد بالأضواء وبالديكورات الضرورية. فالسيدة كلينتون سياسية أمريكية تقليدية تعرف ضرورة العلاقة مع إسرائيل والصهيونية وأموال البترودولار وقيمتها. ازداد تدخل السيدة كلينتون وسفيرتها فى مسار الأمور المصرية، وازداد وضوح انحيازهما للإسلام السياسى فصنعا جسوراً عميقة ومتشعبة مع المرتزقة المسلمين وآلات الإعلام وأصوات الليبرالية والمجتمع المدني. وتماماً كما فى السينما الأمريكية حيث تنقلب الحقائق فى فيلم كوكب القرود فيصير البشر ادنى ذكاءا وقيمة من القرود انقلبت حقائق الشرق فى عالم سياسة كلينتون إن لم يكن فى عالم السياسة الأمريكية ذاتها. فصارت قطر هى قبلة الساسة الأمريكان وصارت دول النفط هى المدافع عن الحريات وصار الإخوان المسلمون فصيلاً ديمقراطياً ثائراً وصارت مصر دولة مارقة. دارت الدوائر فى عالم السيدة كلينتون فكانت احد مهندسى وصقور المشروع الليبى والسورى أمام معارضات أوباما الضعيفة والباهتة. لم يكن من الغريب أن يتمرد المصريون على مشروع كلينتون وتوصيات سفيرتها فى القاهرة فكانت 30 يونيو التى أفسدت وعقدت المشروع الغربى فى سوريا وحولته إلى بؤرة للمواجهة الدولية. والمتتبع للمنشور عن دهاليز السياسة يعرف أيضا أن كلينتون كانت تحلم بأن تكون ليبيا هى إنجازها الكبير. كان نجاح ترامب فى الانتخابات الأمريكية تطوراً منطقياً لأسباب عديدة؛ فالولاياتالمتحدة تواجه أزمة متعددة الجوانب تستدعى تغيرات هيكلية كبيرة فى سياساتها. فالولاياتالمتحدة ومعها العالم بالضرورة ذ تمر بأزمة اقتصادية كبيرة تتجاوز الركود الاقتصادى وتقترب من كساد يخيم على كل العالم (الحر). ولقد فشلت حتى الآن كل وسائل العلاج لهذا الكساد الكبير فلقد فشلت وسائل (التيسير الكمي) وهو التعبير المهذب لإغراق أسواق المال بالنقود وفشل أيضا (تخفيض سعر المواد الخام) كالنفط وفشل أخيرا (تخفيض سعر الفائدة) الذى اقترب من الصفر. هذا الكساد الكبير يهدد المجتمع الأمريكى وأهم حلفائه وهى بريطانيا فقلب التجارة العالمية والقطاع المصرفى هم الولاياتالمتحدةوبريطانيا ولكنه بالضرورة يتمدد حول العالم. هذا القطاع المصرفى يصارع جبالا من الديون تهدد بقاء آلية الإقراض والتمويل التى هى لب العملية الرأسمالية ذاتها. الأزمة الاقتصادية الأمريكية إذا انفجرت فلقد تصل إلى كل بيت أمريكى وبريطانى فكل مواطنى هذه الدول يحيون فى بيوت مملوكة لهم بالاقتراض وبالديون فأى إفلاس مصرفى سيصل إلى ملايين البشر. وهذا المثال البسيط يقترب من قطاعات أخرى اكبر وأوسع وتحيا حياة أكثر هشاشة وهم الملايين الذين يحيون قرب الحد الأدنى من الأجور أو فى عالم البطالة. الأزمة الأمريكية الكبيرة هى أيضا ناتج دخول الصين إلى مجال المنافسة العالمية فالصين تلاحق تطورات التكنولوجيا الأمريكية والصناعة الأمريكية وتغرق أسواق العالم ببضاعة لا تستطيع الولاياتالمتحدة منافسة أسعارها فنموذج الصناعة الصينية المملوكة للدولة تقريبا يحدد أسعار كل شيء ويمد ذراعه حول العالم للمنافسة على مصادر المواد الخام فى إطار عملة صينية رخيصة. صارت الأزمات الأمريكية الاقتصادية معضلة لا يجدى حلها إلا بعمليات جراحية تستدعى تخفيضاً مؤلماً لقيمة الدولار ذاته حتى يتنافس مع الصين. ولكن تخفيض قيمة الدولار حول العالم ليست بالعملية السهلة أو بالبسيطة ولا يمكن تحقيقها عبر أيام أو شهور فهى عملية سياسية بالأساس. فكل الدول التى تدور فى فلك الولاياتالمتحدة تحيا فى مدى (دولاري) ما وينطبق هذا على بريطانيا مثلا أو السعودية أو الفلبين. وأى تغيير كبير ترتبه الولاياتالمتحدة سيصيب العالم وأتباع الولاياتالمتحدة باهتزازات كبيرة. الأزمة الأمريكية الكبيرة لا تحدث فى عالم خامل افتراضى خارج الولاياتالمتحدة فعالم القطب الواحد قد انتهى بل ويبدو أن هذا العالم قد امتلك القدرة على ابتزاز الولاياتالمتحدة وحلفائها ابتزازات كبيرة تتجاوز استخدام السلاح لحرب من نوع جديد لا تريق قطرة دماء واحدة وهى حرب السكتات الإليكترونية. وحتى يتضح الأمر، فالحديث عن خطورة الحرب الاليكترونية وتداعياتها لم يعد سراً. فها هو وزير الدفاع فى بريطانيا يعلن منذ أيام أن الإنفاق على الأمان الاليكترونى ضرورة ويرصد 2 مليار دولار لهذا المجال، وربما يعد ما حدث فى الولاياتالمتحدة يوم 8 يوليو2015 نموذجا صارخا للتحديات الأمنية والعسكرية التى تواجهها الولاياتالمتحدة ففى هذا اليوم تم إغلاق البورصة الأمريكية بقوة معادية وغامضة لخمس ساعات متوالية صاحبها تأثر 4000 رحلة طيران لشركة يونيتد الأمريكية وإغلاق موقع جريدة وول ستريت. هذا الحدث الخطير هو نموذج لشكل جديد من التحديات العسكرية والسياسية التى تواجهها الولاياتالمتحدة وهى مشتتة الفكر والإرادة فى المستنقع السورى والأوكراني. فلقد تحول مشروع مواجهة سورية وتقسيمها ونزع أسلحة إيران وحزب الله إلى مصيدة سياسية مهينة للولايات المتحدة مما جعل تلافى سقوط مدوٍ فى الشرق الأوسط أولوية سياسية عاجلة. تلافى هذا السقوط الكبير يستدعى التخلص من عبء وفضائح أصحابه ومنظريه. الولاياتالمتحدة تستدعى مشروعا سياسيا واقتصاديا جديدا، هذا المشروع يسعى لإعادة هيكله العالم سياسيا فى مواجهة الصين ويسعى للخروج من أزمة اقتصادية مستحكمة. مشروع كبير يستحق المغامرة وإن استدعى الأمر إعادة هيكلة العالم كله من السوق الأوربية لدول النفط وحتى وإن استدعى استدعاء مرشح بلا خبرة فى أى مناصب حكومية أو سياسية فى الولاياتالمتحدة وحتى وإن استدعى تبنى إستراتيجية شعبوية تخاطب غرائز الناس البدائية، وحتى وإن استدعى إدارة حملة سياسية وشعارات بدت وكأنها تقنن وتشرع التعصب ضد الأقليات والأديان المختلفة، وهو ما يعد خروجاً على قيم الحداثة والإنسانية. ولا أحد يعلم حتى الآن إن كانت تلك هى ضرورات انتخابية أباحت محظورات سياسية أم إنها بداية لعصر أكثر عنفا وشراسة حول العالم كله فشعوب العالم بلا جدال ليست مجرد دمى أو بيادق بلا رأى أو إرادة. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;