اعتاد المحللون والصحفيون العرب التساؤل عن قدرة روسيا وعزمها فى الدفاع عن سياستها. وقد يكون السؤال الأجدر بالإجابة فى الواقع هو: هل تستطيع الولاياتالأمريكية خوض مواجهات قد تورطها فى خوض حروب مباشرة فى ظلال الأزمة الاقتصادية الأمريكية والعالمية الحالية؟ هذا سؤال محورى فى تفهم ما يدور فى شرق المتوسط. حقيقة الأمر أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة. الازمة الامريكية تلقى بظلالها على العالم كله، فمن اليونان للولايات المتحدة ومن ازمة التمويل العقارى عام 2007 حتى اليوم تتعدد ظواهر عمق تلك الازمه. فحجم الدين الأمريكى الداخلى من الهول بحيث صار من المستحيل تجاهله. و تعدد وعمق التناقضات بين احتياجات قطاعات الاقتصاد الامريكى المختلفة واضحة كل الوضوح. فالرأسمال المالى والقطاع المصرفى مثلاً يدفعان فى اتجاه رفع سعر الفائدة على الإقراض بمبررات تعافى الاقتصاد العالمى بينما تواجه الاستثمارات فى قطاعات التنقيب عن النفط والمعادن كسادا، نتيجة انخفاض أسعار المواد الخام هذا بينما تترنح قطاعات اخرى من انخفاض الطلب فى ظلال منافسة الصين. فى ظلال هذا تتبنى دوائر مختلفة من الساسة والاقتصادين الامريكان مواقف غير معلنة اهمها هو اعطاء اولويه لتلافى تصاعد الازمة الاقتصادية و انفلاتها. تلك المواقف حول اهمية الازمة الحالية تتباين فيها رؤى الإدارة ومن اوضحها التردد الواضح حول قيمة سعر الفائدة او رفع قيمتها. فهناك من يرى ان انخفاض سعر الفائدة الحالى قد طال اكثر من اللازم و إنه إن قد كان ضرورة لتحريك عجلات الاقتصاد التى قاربت السكون ُ فلقد صار الان خطرا. التأرجح الواضح فى السياسة الامريكية تجاه سعر الفائدة ذو دلالة فلقد تراجعت الولاياتالمتحدة عن رفع سعر الفائدة على الإقراض فى خلال شهر سبتمبر. هذا التراجع جذب انتباه الاعلام والمحللين، فقد تم رغم أن تصريحات مؤكدة صدرت طيلة العام بأن رفع سعر الفائدة قريب جداً. تلك التصريحات أشارت لبورصات وأسواق العالم إلى إن هذا التغيير سيتم فى أسابيع مع مبررات بأن الاقتصاد الأمريكى قد تعافى وأن استمرار سعر الفائدة القريب من الصفر تجاوز فائدته الى الضرر. وكانت التصريحات فى شكل ( تحذير ) لقطاعات المال والأموال يندر أن يتم إلا إذا كان شديد الجدية. ولكن الحقائق التى صنعها القرار الصينى فى أغسطس بتخفيض سعر عملتها اليوان (الذى يحمل صورة الزعيم الشيوعى ماو تسى تونج) كانت ذات توقيت حساس مربك لبعض قطاعات الادارة الامريكية. فلقد أجبر تخفيض العملة الصينيةالولاياتالمتحدة (شاهبندر تجار العالم) على التراجع عن رفع سعر الفائدة خشية خسائر لا يمكن حسابها فى قطاعات مختلفة من الاقتصاد الأمريكي. فلقد كان التحرك الصينى المفاجئ دلاله على صرامة واستقلالية إرادة الصين وحلفائها فى صراع اقتصادى وسياسى حول قدرة الصين الصاعدة وقدرة حلفائها على التأثير الحاسم فى العالم. واضطرت الولاياتالمتحدة إذاً إلى التراجع عن رفع سعر الفائدة مؤقتا حتى تتلافى انفلات عقال قيمة الدولار، صعوداً أمام اليوان الصيني، وهو ما كان سيعقد الآليات الأمريكيه فى احتواء قدرات العملاق الصينى الاقتصادية. لم تأتِ تصريحات رفع سعر الفائدة الأمريكية من فراغ إنما أتت من أهم أركان الاقتصاد الأمريكى ألا وهو منصب مسئولة الاحتياطى الاتحادي. ومَن يكون فى سدة هذا المنصب هو محط الأضواء فهو العالِم بأسرار المال، والقادر على إحداث تغيير فى اتجاه الريح فى عالمه. فتسير سفن وتتحرك قطاعات فى الاقتصاد وتخمد أخرى. من الأسماء التى تتابعت على هذا المنصب آلن جرينسبان وبن برينانكى ثم حاليا السيدة - للمرة الأولى - / جانت يلين. التحكم فى سعر فائدة الإقراض للدولة الأمريكية أحد أهم سمات الاقتصاد الدولي، بل تكاد تكون أهم آلية إلى جانب (طبع النقود) التى يطلق عليها تأدبا التخلص من الضغوط، وهو ما تمارسه الدولة الأمريكية، ومارسته انجلترا، ولكنها تحرمه على بقية دول العالم. تحيط الأزمات الاقتصادية بالولاياتالمتحدة والعالم، فى ذات الوقت التى تتحول فيه روسيا إلى قبلة للمتناقضين فى سياسات الشرق فى الأسابيع الماضية. فمن نيتانياهو إلى قيادات الأكراد وإيران وملك الأردن وزعماء سوريا ومصر تزداد أهمية موسكو يومياً فى الصراع الدولي. ففى الأيام الماضية تحركت القوات الروسية إلى سوريا فى إشارة لا يمكن تجاهل دلالاتها الدولية الكبيرة، فكان الإعلان عن انتقالها نهاية لشعار استبعاد الزعيم السورى / بشار الأسد من التفاوض بشأن سوريا. أحاط انتقال القوات الروسية إلى شرق المتوسط قدرا من الغموض والترقب كان العالم قد نسيه منذ اختفاء الاتحاد السوفيتى وسقوطه. انتقال له سوابق عدة مهمة فى تاريخ الاتحاد السوفيتي. فك أزمة الصواريخ الكوبية، دخل السوفيت المجر وأصدروا إنذار بولجانين فى 1956 دعما لمصر، وتدخلوا فى تشيكوسلوفاكيا. كانت كل التحركات تحديات كبرى للغرب. اعتاد المحللون إدمان تصور أن روسيا غير قادرة على إدارة أزمتين كبيرتين فى ذات الوقت، وأنها أقل قدرة دوماً من مواجهة الولاياتالمتحدة. وربما يجدر هنا أن نشير إلى أن تاريخ الساسة والعسكريين السوفيت ذاتهم هو تاريخ يتميز بالحرص فى إدارة الصراعات مع الثور الأمريكى الهائج، وربما لم يخسر السوفيت فى أى من تلك المواجهات التى امتدت عبر القرن العشرين إلا فى أفغانستان. لكن أيامنا هذه تشهد تحالفات غير مسبوقة بين روسياوالصين. فالحلف الروسى الصينى هو حلف عميق ومبنى على تجارب مريرة للانشقاق بين البلدين. حلف يشهد إطلالة حاسمة للصين على المحيط الهادى وعلى بحر الصين الجنوبي. وها هى روسيا ذاتها تتجاوز الزلزال السياسى لسقوط الاتحاد السوفيتى وصار الجيش الروسى المتمسك برايات المنجل والمطرقة جزءا لا يتجزأ من إدارة الدولة الروسية للصراعات الدولية دون أدنى ستار. إن قدرة الولاياتالمتحدة على التلويح بمواجهة عسكرية فى ظل هذه الظروف معدومة، بل إن سعيها لتلافى تورطها فى مواجهة هو أحد أهدافها. فالحروب بالوكالة هو كل ما تستطيعه الآن. هذا هو ما يدركة القيصر الروسى وحلفاؤة. وعلينا نحن إدراكه وتجاوز ما يمكن تسميته «مبدأ السادات» وهو أن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، فهذا ليس صحيحاً. إن تداعيات فشل الاطاحة بدمشق ستكون واسعة و ستصيب حلفاء امريكا. ففى الاقتصاد والسياسة والحرب لم تعد امريكا اللاعب الأهم او الوحيد. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي