غني عن القول أن النفط لعب دوراً كبيراً في السياسة الدولية خلال العقود الماضية، وبشكل خاص في الصراع بين الولاياتالمتحدةوروسيا، وحلفاء البلدين، ومؤخراً كان النفط أهم بنود حزم العقوبات الاقتصادية المفروضة من الولاياتالمتحدة أو المجتمع الدولي على دول مثل إيران بسبب برنامجها النووي، ومؤخراً روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية. في هذا السياق أثار تهاوي سعر النفط مؤخراً تساؤلات من جديد حول دور السياسة في التأثير على مسارات الاقتصاد، والتي من أهمها تجارة النفط، فمن البديهي والمعروف أن الاقتصاد هو محرك السياسة الأول بكل ما للكلمة من معنى، سواء في حروب أو أزمات سياسية أو اجتماعية، ويزخر التاريخ الحديث لأزمات كبرى أستخدم فيها النفط كسلاح فعال للضغط على دولة أو أكثر لتحقيق أهداف سياسية. وما يجري الأن من انخفاض لسعر النفط من سقف مئة وأربعة عشر دولار للبرميل إلى أدنى من اثنين وثمانين دولار، بمعدل تدني بلغ أكثر من عشرين في المائة خلال الأشهر الأخيرة، وقابلية أن يستمر الانخفاض بوتيرة سريعة لمعدل أقل من أربعين في المائة خلال الشهور القادمة يطرح تساؤل عن السبب والمستفيد والخاسر. ولكن الإجابة المؤكده حتى الأن أن هبوط أسعار النفط يرتبط بشكل مباشر بالصراع بين القوى الكبرى وحلفائهم، تحديداً الولاياتالمتحدةوروسيا. المعامل المهم دائما في معادلة خفض أو ارتفاع أسعار النفط كانت دائما السعودية، الدولة التي تضخ حاليا ما يتجاوز أحد عشر مليون برميل من النفط يومياً، منهم ما يقترب من عشرة مليون يصدروا إلى الخارج، لتحتل المركز الأول يليها روسياوالولاياتالمتحدة، والأخيرة تختلف عن روسيا والسعودية في أنها الأكثر استيراداً والأكثر استهلاكاً، بنسبة لا تقل عن 25 في المائة من الإنتاج العالمي الذي يبلغ حوالي خمسة وثمانين مليون برميل يومياً، بينما في روسيا يستند اقتصادها إلى حد كبير على تصدير النفط والغاز، وأخيراً السعودية التي يقوم اقتصادها بشكله الريعي على تصدير خام النفط. مع ملاحظة أن موسكو تحتل المركز الرابع والرياض تحتل المركز الحادي عشر في قائمة الدول المستهلكة للنفط، مما يمنح الدولتين بالإضافة إلى إيران التي تحتل المركز الخامس انتاجاً والخامس عشر استهلاكاً، هامش ربحي عالي من بيع النفط. إذن تمثل السعودية الحصان الرابح دوماً مهما تبدلت أحوال سوق النفط، فالدولة الأكثر انتاجاً والأقل استهلاكا تتحكم في ارتفاع السعر أو انخفاضه عن طريق رفع أو خفض انتاجها، طبقاً لقانون العرض والطلب والوفرة والندرة. واللافت هذه الأيام أن السعودية لم تسارع إلى خفض إنتاجها من النفط لإيقاف تدهور الأسعار حتى أول أمس، حيث قامت بخفض تصديرها من 9.68 مليون برميل إلى 9.360 مليون برميل في حين سجل انتاجها من الموجه للتصدير بأكثر من 9.70 مليون برميل خلال الشهرين الماضيين، مما يعني أن السعودية لا تعترض على تخفيض سعر النفط ولكن أن يبقى عند حد معين وسقف الخمسة وثمانين دولار. وهو ما أكدته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية قبل أيام، حيث ذكرت الصحيفة بحسب مسئولين في صناعة النفط بالسعودية أن الرياض أنها راضية عن أسعار تحت سقف التسعون دولار. وقبل أربعة أيام أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن المخزون الاستراتيجي من النفط الخام-المخزون الإستراتيجي هو الكمية المتوقع استهلاكها خلال فترة من شهر إلى ثلاثة أشهر وهو عكس الاحتياطي الاستراتيجي سواء المستخرج أو المتوقع استخراجه- قد ارتفع بمقدار 7.1 مليون برميل، بعد انخفاض على أثر عمليات البيع المتوالية، ليصل إلى 377.4 مليون برميل، وهو ما يعني قدرة الولاياتالمتحدة على الصمود أمام انخفاض سعر النفط سواء استهلكت من مخزونها الاستراتيجي أو اضافت عليه بسعر البرميل المنخفض حالياً. وتعتبر الولاياتالمتحدة الدولة الرائدة في العالم في مسألة المخزون الاستراتيجي من النفط، حيث سن الكونجرس الأميركي تشريعاً يلزم الحكومة الفيدرالية بتخزين كميات من النفط الخام لحالات الطوارئ، وذلك عقب أزمة شتاء 1974، بعد تخفيض دول الخليج تصديرها النفط إلى الولاياتالمتحدة عقب حرب أكتوبر1973، وبالإضافة إلى المخزون الفيدرالي فأن شركات النفط الأميركية لديها أيضاً مخزون استراتيجي يوازي المخزون الاستراتيجي، ليبلغ مجمل معدل استهلاك المخزون إلى أكثر من تسع سنوات. ويتفق السابق مع ما قد نشرته صحيفة "برافدا" الروسية في إبريل الماضي عشية زيارة الرئيس الأميركي إلى الرياض، حيث ذكرت الصحيفة أن " الرئيس الأميركي باراك أوباما أقنع ملك السعودية بتنسيق الإجراءات في سوق النفط لخفض أسعاره العالمية الحالية التي تعد المصدر الرئيسي لعائدات التصدير الروسية، لمعاقبة روسيا في سلوكها تجاه أزمة شبة جزيرة القرم، ويقدر خبراء أنه إذا تم تخفيض سعر البرميل بنسبة أقل من 12 دولار عن سعره الحال (ابريل الماضي سجل 113 دولار للبرميل) فأن روسيا الاتحادية ستخسر 40 مليار دولار في إيراداتها السنوية من تصدير النفط، وهو ما يشبه نفس كيفية انهيار الاتحاد السوفيتي (..)هناك سابقة من هذا العمل المشترك التي تسببت في انهيار الاتحاد السوفييتي.في عام 1985، قامت المملكة زيادة إنتاج النفط بشكل كبير من 2 مليون إلي 10 مليون برميل يوميا، وانخفض سعره من 32 إلى 10 وصولا إلى 6 دولارات للبرميل عشية تفكك الاتحاد في حين خسر الاتحاد السوفيتي مليارات الدولارات فأن المملكة العربية السعودية لم تفقد أي شيء، لأنه عندما انخفضت الأسعار بنسبة 3.5 أضعاف الإنتاج قد ازداد خمسة أضعاف. كان الاقتصاد المخطط في الاتحاد السوفيتي لم يكن قادرا على التعامل مع انخفاض عائدات التصدير، وكان هذا واحدا من الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي (..) قبل زيارة أوباما إلى المملكة العربية السعودية، ناقشت وسائل الإعلام الأمريكية خيارات عقاب روسيا بسبب السلوك في شبه جزيرة القرم واقترح الخيار الأول رجل المال الأمريكي جورج سوروس. فوفقا له، يمكن أن تبيع الولاياتالمتحدة من 500 إلى 750 ألف برميل يومياً من مخزونها الاستراتيجي، مما سيؤدي إلى انخفاض في أسعار النفط العالمية بنحو 10 إلى 12 دولار للبرميل الواحد. وبعد إعادة توحيد القرم مع روسيا رسميا، أعطت إدارة أوباما أوامر لبيع 5 مليون برميل من مخزونها الاستراتيجي من النفط". إذن خفض سعر النفط حاليا، لا يمكن رده بالكامل لعوامل تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، خاصة في أوربا وجنوب شرق أسيا والصين، ففي النهاية أكبر مستهلك للنفط الولاياتالمتحدة وأكبر متنج السعودية، لا يروا غضاضة في خفض سعره، والأولى بالذات على أعتاب اعتماد استخراج النفط الصخري كصناعة قائمة بذاتها، وبحسب المحلل والكاتب الأميركي، توماس فريدمان فأن " انخفاض الاسعار هو نتيجة التباطؤ الاقتصادي في أوروبا والصين، (..) ولكن هناك عامل لافت يتمثل في أن الولاياتالمتحدة –التي تسعى لأن تصبح واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم بفضل التقنيات الحديثة التي تمكن من استخراج كميات كبيرة من النفط من الصخر الزيتي- جنبا إلى جنب مع السعودية لجعل الحياة صعبة بالنسبة لروسياوإيران، فبدل أن يسعوا (الرياض وواشنطن) إلى تقليص انتاجهما للحفاظ على أسعار أعلى، اختاروا بدلا من ذلك الحفاظ على حصتهما في السوق ضد منتجي أوبك الآخرين. وهو ما يعني أن هناك حرب تجارية أخرى بموازاة الحرب بالوكالة في سوريا، وتستخدم فيها وسائل أخرى هي النفط". من الممكن القول أن استخدام النفط كسلاح سياسي يشابه ما حدث عشية إنهيار الاتحاد السوفيتي، أي أنها معركة "تكسير عظام" تكشر فيها الولاياتالمتحدة عن أنيابها الاقتصادية وتوجهها هذه المره إلى روسيا بشكل مباشر بدل من حلفاءها، وقد يصل هذا إلى مراحل أعنف من ذلك حال استمرار الولاياتالمتحدة والسعودية بتخفيض سعر النفط. ولكن هنا يحضرنا القانون الفيزيائي الشهير "كل فعل له رد فعل مساوي له في القوة ومضاد في الاتجاه"، أي أن روسيا وحلفائها سيتاخذوا اجراءات مضادة، ليس فقط في ساحة العقوبات الاقتصادية والنفطية -التي تأقلمت معها وتجاوزتها إيران مثلاً- ولكن أيضاً في ساحات أخرى وبأدوات أخرى، فلا يمكن لروسيا أن تقف ساكنة أمام خسارة تتجاوز 100 مليار دولار بشكل سنوي في قطاع يشكل 70% من قوتها الاقتصادية.