والذي لا شك فيه أن ثمة مجموعة من العوامل قد دفعت روسيا في هذا الاتجاه، فعلى المستوى الداخلي بدأ التحول التدريجي لاستعادة الدور المفقود منذ أن تولى «فلاديمير بوتين« مقاليد السلطة؛ حيث طرح رؤى مغايرة للنهوض الروسي اعتمادًا على أن بلاده تعد أكبر مصدر للطاقة في العالم، وتمتلك أكبر مستودع للغاز على سطح الكرة الأرضية، ومستفيدًا من الارتفاع الجنوني لأسعار النفط العالمية، الذي أدى إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006 بنسبة 8،6% مقارنة بالعام السابق له، ووصوله إلى ما يعادل تريليون دولار، وذلك في الوقت الذي تحتل فيه روسيا المركز الثالث في العالم من حيث حجم الاحتياطي من الذهب والعملات الصعبة (بعد اليابان والصين) الذي بلغ في أواخر عام 2006 حوالي 303 مليارات دولار.. كل ذلك أدى إلى استعادة موسكو لعافيتها الاقتصادية، وانطلاقها لتصبح إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم.ويمكن القول إن قوة الاقتصاد الروسي وفرت دعما للقوة الشاملة الروسية، وهو ما بدا في تمويل برنامج الترسانة العسكرية الذي أعلن مؤخرًا بحجم 189 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، والذي سيتم خلاله استبدال حوالي 45% من أنظمة التسلح الحالية، كما ازدادت النفقات العسكرية لتبلغ في عام 2007 نحو 60 مليارًا، وهو ما انعكس بشكل لافت على حجم مبيعاتها العسكرية الدولية، التي بلغت 1،8 مليارات دولار لتأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد الولاياتالمتحدة (3،10 مليارات دولار). إذًا فقد ساهم النمو الاقتصادي المتسارع في عودة الثقة إلى روسيا مجددًا، لدرجة دفعتها إلى إرسال غواصة إلى أعماق المحيط المتجمد الشمالي، وهو ما اعتبر بمثابة انتصار تاريخي كبير على أساس أن قاع المحيط المتجمد الشمالي قد أصبح بذلك ملكًا لها لتمتد حدودها من سواحلها الشمالية حتى القطب الشمالي، فضلاً عن إعلان القيادة السياسية استئناف طلعات القاذفات البعيدة المدى بعد غياب دام 15 عامًا، الأمر الذي يعكس تحولا استراتيجيا مهما في العلاقات بين موسكو والغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، مفاده أن الصمت الروسي على الاحتكار الأمريكي لإدارة شؤون العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق لن يطول، وأن الأمن القومي الروسي سيظل خطا أحمر أمام طموحات واشنطن إلى السيطرة على مناطق نفوذ روسيا السابقة، ونشر أنظمة درع الدفاع الصاروخية على مقربة من حدودها.. وقد عزز هذا التحول إعلان روسيا أنها تنوي تطوير جيل جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وأنها ستستأنف برنامجها الفضائي استعدادًا لإرسال رواد فضاء إلى القمر بحلول عام 2012 لتأسيس قاعدة على سطحه، كما ألمحت إلى أنها تنوي أيضًا إرسال رحلة فضائية إلى المريخ بعد عام 2025،. أما على المستوى الخارجي، فقد كانت حالة التراجع الأمريكي والمأزق الذي تعيشه واشنطن في العراق وأفغانستان، بمثابة فرصة لا ينبغي تفويتها بالنسبة لروسيا؛ حيث منحتها تلك الحالة حرية الحركة الكافية لاكتساب حلفاء جدد أو استعادة حلفاء قدامى فقدتهم حين انشغلت بالتطورات الداخلية الدراماتيكية التي شهدها الاتحاد السوفيتي السابق. ولعل اعلان نقطة الانطلاق على هذا المستوى بدأت حينما انتقد الرئيس السابق «فلاديمير بوتين« السياسات الأمريكية في خطابه أمام مؤتمر السياسة الأمنية في ميونيخ 2006؛ حيث وصف الولاياتالمتحدة بأنها تخطت حدودها بالانفراد دوليا بالقرارات، وتجاهلت روسيا ومراكز قوى جديدة في العالم يجب أن تؤخذ في الاعتبار ضمن نظرة جديدة لعالم متعدد الأقطاب. \r\n \r\n وعلى الرغم من تضافر العوامل الداخلية والخارجية لتشكل دعمًا لا يستهان به نحو الصعود الروسي إلى قمة النظام العالمي، فإن ثمة اتجاهين رئيسيين بشأن قراءة هذا التوجه: الأول.. يرى أن روسيا الاتحادية مهددة بالتفكك والانهيار لأسباب ديموغرافية واقتصادية وعسكرية وتقنية، وأن استفادتها من ارتفاع أسعار النفط لن تمكنها من تجاوز أزماتها الاقتصادية الهيكلية إلا مرحليا لتعود مجددا إلى الغرق في بحر أزماتها الداخلية البنيوية، ويعزز من ذلك حالة الفوضى التي يعيشها الجيش الروسي وضعف قدراته القتالية وعجزه في الشيشان، وكذلك وجود نظام سياسي لم يصل بعد إلى حالة الاستقرار والثبات من ناحية تثبيت أركان ومقومات الديمقراطية به. أما الاتجاه الثاني.. فيرى أن روسيا تملك فرصًا للنهوض والقدرة على أن تكون منافسًا للولايات المتحدة من خلال إعادة توزيع علاقات القوى وتغيير علاقات الاختلال في النظام الدولي، عبر المشاركة بتفاعلات كثيفة، واعتماد مواقف فاعلة في أقاليم العالم الأكثر أهمية، وهذا ما عكسه نجاحها مؤخرًا في توجيه رسائل قوية إلى منافسيها عبر استخدامها للوسائل العسكرية لحماية فنائها الاستراتيجي وعمقها الحيوي، وهو ما تجلى في تعاملها مع الأزمة الجورجية الأخيرة؛ ففي الوقت الذي حاولت فيه جورجيا إحداث تغيير نوعي في طبيعة التعاطي السياسي مع أزمة إقليمي «أوسيتيا« و«أبخازيا« الانفصاليين من خلال تدويل مهمة حفظ السلام التي تقوم بها روسيا منفردة في هذين الإقليمين، وبالتالي تحجيم النفوذ الروسي في المنطقة، فإن موسكو لقنت جورجيا درسًا حول مدى محدودية تأثير الغرب في المنطقة، ولاسيما على خلفية خطط انضمام الأخيرة إلى حلف الناتو، لتوجه بذلك رسالة إلى كل من يرغب في الانضمام إلى حلف الناتو من دول المنطقة؛ حيث نجحت موسكو في النهاية في تعزيز موقفها الساعي لفرض هيمنتها على عمقها الحيوي بالقوة. وفي هذا السياق، يبدو أن تقليص نفوذ الناتو والاتحاد الأوروبي في منطقة القوقاز ليس الهدف الوحيد لروسيا من وراء العمليات العسكرية الأخيرة في جورجيا، فالهدف الرئيسي الآخر على الأجندة هو بسط السيطرة على منابع الغاز والنفط فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي سابقا.. فمن المعروف أن خط الأنابيب المعروف باسم «BTC« يحمل النفط من أذربيجان إلى تركيا مرورًا بجورجيا بعيدًا عن أي سيطرة روسية، وهو الخط الذي يمثل الإمكانية الوحيدة لأذربيجان لتلافي السيطرة الروسية على نفطها ونقله إلى السوق العالمية، لذلك فإن عدم الاستقرار في جورجيا قد يقلل من فاعلية هذا الخط، وبالتالي يمنح روسيا السيطرة على توزيع مصادر الطاقة في آسيا الوسطى وبحر قزوين. \r\n \r\n وبالتوازي مع استخدام القوة الصلبة في القوقاز تسعى موسكو إلى تعزيز هذا الحضور المكثف دوليا بالوسائل الناعمة في مناطق أخرى كالشرق الأوسط، التي تعد ساحة لدول كثيرة طامحة للعب أدوار إقليمية ودولية مؤثرة، وهو ما يتجلى في استقبالها للرئيس السوري «بشار الأسد«، ووجود توقعات بشأن إمكانية تزويد دمشق بأسلحة متطورة، متجاهلة بذلك ما أبدته الولاياتالمتحدة من قلق من احتمال بيع أو نقل أسلحة روسية إلى سوريا يمكن أن تهدد التفوق النوعي والاستراتيجي الإسرائيلي في الشرق الأوسط، خاصة أن العلاقات بين تل أبيب وموسكو شهدت فتورًا ملحوظًا بعد تقديم الأولى مساعدات عسكرية لجورجيا، وصفها البعض بأنها حرب بالوكالة لصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية. ورغم ذلك، فإن المعطيات الواقعية لا تشير إلى استعداد القيادة الروسية لتزويد دمشق بما تريده من أسلحة متطورة في الأمد القريب، فضلاً عن أن تعقيدات التحالفات في منظومة السياسة الدولية لا تقدم توصيفا عقلانيا لفرضية اعتبار التقارب الروسي السوري الأخير أحد بوادر تحالف استراتيجي جديد بين دمشقوموسكو يمكن أن يغير التوازن الاستراتيجي في المعادلة الشرق أوسطية بقدر ما هو تحالف مرحلي يسعى الطرفان للاستفادة منه بشتى الوسائل. فعلى أرض الواقع يصعب تصور قيام موسكو بتضخيم الأزمة مع إسرائيل وحلفائها الغربيين وتهديد مصالحها الحيوية من دون مقابل مقنع، خاصة أن اللوبي الإسرائيلي في روسيا يلعب دورًا مؤثرًا من الناحيتين الاقتصادية والإعلامية. وعلى الجانب الآخر فإن هدف القيادة السورية من تعزيز تعاونها العسكري مع موسكو يهدف بالدرجة الأولى إلى دعم موقفها التفاوضي مع إسرائيل وكسر عزلتها الدولية نهائيًا، عن طريق توظيف دخول روسيا خط الصراع الدولي والإقليمي بعد أن فرضت نفسها لاعبًا مهما في منظومة العلاقات الدولية بشكل مكثف فى الآونة الأخيرة. وأخيرًا، فإنه حتى إن ظلت القراءة الحقيقية للواقع تشير إلى أننا مازلنا بصدد عالم أحادي القطبية من الناحيتين السياسية والعسكرية تقوده الولاياتالمتحدة ومتعدد الأقطاب من الناحية الاقتصادية مازال قيد التشكيل، فإن الصحوة الروسية الحالية في حال استمرارها واستغلالها من قبل القوى الأخرى الساعية إلى بلورة عالم متعدد الأقطاب قد تسهم بلا شك في تصحيح مسار التوازن الدولي لتقليل جنوح الهيمنة الأمريكية وتداعياتها السلبية التي تمثلت في التجاوزات الخطيرة التي ارتكبت في حق العديد من الدول والشعوب، وهو ما ظهر جليًا من خلال تحييدها دور المؤسسات الدولية ورفضها توقيع المعاهدات الدولية من قبيل معاهدة «كيوتو«، وانسحابها من معاهدة حظر انتشار الصواريخ، وإصرارها على الغزو العسكري للعراق على الرغم من اعتراض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وفي مقدمتها روسيا والصين. \r\n