ما أثقل الكتابة هذه الأيام الملونة بالدم والمضمخة برائحة الفوضى والعبث وانعدام الضمير، فضلا عن الكذب والطمع والتهريج الرخيص.. إنها محنة حقيقية أن يطل كاتب بانتظام مملّ على قارئين، بات اليأس والقنوط يسحقان أفئدتهم، بعدما أضناهم وبدد آمالهم وأحلامهم وأمانيهم الحلوة كل هذا الفيض الرهيب من الكوارث والجرائم المتتابعة والحروب العبثية المتنقلة التى سارت جميعا طبقا لسيناريو واحد لم يغير فيه المجرم الغبى البليد الذى صممه شيئا (انظر جريمة «العباسية» الأخيرة وقارنها بتفاصيل جرائم ومذابح «ماسبيرو» و«محمد محمود» و«استاد بورسعيد» و«مجلس الوزراء» وغيرها)، ولأن من آيات هذه المحنة التى يكابدها العبد لله الآن تكرار قول الكلام نفسه واجترار الأفكار عينها والملاحظات والاتهامات ذاتها، ورغم أننى متأكد أن التكرار لا يفيد الشطار أبدا بل يزهقهم ويثير أعصابهم، كما أن «الحمار» المتحكم فى مصائرنا حاليا لا ينفع معه أى تكرار، فإننى مضطر -لدواعٍ، أظنك تفهمها وتتفهمها- إلى أن أستعيد وأكرر، فى هذه المناسبة التعيسة، سطورا كتبتها هنا من أشهر قليلة وأراها ما زالت تنفع وتصلح.. فهيّا إليها: كنت وصديقى العالم المرموق الدكتور فكرى حسن نتحدث (كما يفعل أغلب المصريين هذه الأيام) فى مظاهر مأزق أو «زنقة» الوضع المأساوى الذى جرجرنا إليه المسار «العسكرى – الإخوانى» المشترك المفروض علينا منذ لجنة «المستشار + المحامى صبحى» سيئة الذكر، وعند موضع معين من الكلام المصبوغ بالحسرة على ما ضاع وتبدد من زمن الثورة وزخمها ذكّرنى الدكتور فكرى بمسرحية الفيلسوف والمسرحى الفرنسى جان بول سارتر «الأبواب المغلقة»، ملاحظا أن ثمة شبها كبيرا بين حالتنا الراهنة (أو بالأحرى حال اللاعبين الرئيسيين على مسرحنا السياسى الحالى) وبين الحال التى وجد أبطال هذه المسرحية أنفسهم محشورين فيها. عدت إلى المسرحية التى سبق أن قرأتها من سنوات بعيدة مترجمة إلى العربية، وأعدت مطالعتها بعدما عبرت بسرعة على مقدمة شرح فيها المترجم إشكالية العنوان الملتبس لغويًّا الذى اختاره سارتر عمدا للنص الأصلى المكتوب بالفرنسية «huis clos» إذ إن ترجمته الحرفية قد تكون بمعنى «اجتماع مغلق» أو «خلف أبواب مغلقة» أو «بعيدا عن العلن»، لكن الترجمات الإنجليزية لهذا النص تنوعت بين «لا مخرج» أو «لا مهرب» no exit أو «الأبواب المغلقة» وهذا الأخير هو العنوان المشهور لدى القراء العرب. المسرحية تبدأ بخادم لن نعرف له اسما قط وإنما نفهم فقط من السياق أنه يعمل لدى «جارسين» ذاك الذى سيسبق باقى الأبطال فى الظهور عندما نرى عامله يدخل به إلى حجرة تبدو أقرب إلى زنزانة بغير نوافذ ولا مخارج سوى الباب الذى سرعان ما يخرج منه الخادم، تاركا سيده وحده فى الحجرة قبل أن يعود إليها بعد فترة مصطحبا الآنسة «أينس» ثم يُدخل بعدها مدام «إيستل» فيكتمل عقد شخصيات المسرحية الثلاث الذين هم رفاق «الزنزانة». الثلاثة يظنون فى البداية أنهم موجودون هنا ليتم تعذيبهم، ولكن رويدا رويدا يكتشفون أن لا أحد غريبا سيعذبهم، بل عليهم هم أنفسهم أن يعذب بعضهم بعضا.. كيف؟ سيدخلون معا فى حوارات أشبه بعملية تحقيق جنائى فى الذنوب والخطايا التى ارتكبها كل منهم فى حياته، وفى بداية العملية ستبدو اعترافاتهم وثرثراتهم لها علاقة بما يجرى فى الواقع خارج تلك الحجرة المسجونين فيها غير أنهم بالتدريج ومع الغوص العميق فى أوحال ذكريات أفعالهم السيئة الشائنة تتآكل روابط اتصالهم بالعالم المتمدد خلف باب زنزانتهم التى تتحول إلى «سجن» نفسى ومعنوى لكل واحد منهم، ويغرق ثلاثتهم فى عزلة تامة عن «الآخرين». هذه العزلة يرسمها ويجسدها جان بول سارتر فى نهاية وقائع مسرحية «الأبواب المغلقة» تجسيدا ورسما متقنَين عندما يحاول «جارسين» أن يكون أول الخارجين من الحجرة، كما كان أول الداخلين إليها، لكنه لما يفتح الباب لا يكاد يخطو خطوة واحدة بعد عتبته حتى ينكص ويعود إلى السجن، متعللا بأن الجو فى الخارج «شديد الحرارة».. ويتكرر الأمر مع الاثنين الآخرين ويعلنان فشلهما فى الخروج إلى براح الدنيا، لكنهما توسلا بحجج وتعِلَّات وأسباب مختلفة علَّقا عليها عجزهما عن مغادرة الحجرة وكسر طوق «العزلة» التى بناها الثلاثة حول أنفسهم، كلٌّ بذنوبه وارتكاباته، وفى الختام يتفق الجميع على حجة واحدة يصوغها الفيلسوف الفرنسى فى تلك العبارة ذائعة الصيت التى وضعها على ألسنة أبطاله هؤلاء، إذ يهتفون بحماس وحرقة: أن «الجحيم هم الآخرون». هل «الآخرون» عند أبطال مسرحيتنا العبثية الراهنة هم «المصريون» الغلابة؟ أظن أن الإجابة «نعم»!