أستأذن القارئ الكريم أن أقدم له فى السطور التالية مجانا خدمة التعرف على أهم -وليس كل- معالم الكارثة الوطنية الوجودية التى يعكف على هندستها وطبخها حاليا رهط خطير من الظلاميين الظَّلَمة فى مغارة لجنتهم الدستورية المشوَّهة. وقبل أن نقلِّب معا (وباختصار) فى محتوى سلة مشروع دستورهم المسموم المشموم، هل استقوفك استخدام العبد لله تعبير «الكارثة الوجودية»؟ نعم هى ليست كارثة من النوع العارض المؤقت، وإنما هى تصيب فى العمق أسس «وجود» الدولة والمجتمع المصريَّين الحديثَين، فضلا عن سحق وتحطيم أسباب وإمكانيات تقدمهما ونهضتهما وبلوغ المصريين غايات التحرر والانعتاق والحياة الإنسانية الكريمة. إذن، هيا بنا إلى المصائب: * يبنى المشروع الدستورى اللقيط نظاما سياسيا عشوائيا وفوضويا يتردد متسكعا بين أسس وسمات الديكتاتورية الفاشلة والحكم باسم الدين، وتكفى هنا الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية طبقا لنصوص وبنود هذا المشروع، يملك اختصاصات ويمارس سلطات شبه إلهية (ربما تكون أكثر قليلا مما كان موجودا فى دستور 1971)، فهو رئيس الدولة (بكل سلطاتها) ورئيس السلطة التنفيذية، لكنه فى الوقت نفسه، يرعى الفصل بين السلطات، والمسؤول عن استقلال الوطن وسلامة أراضيه، وهو الذى يعيِّن رئيس الوزراء، ويضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، ويدعو الحكومة للاجتماع ويرأس الاجتماعات التى يحضرها، كما أنه المختص بإبرام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ويعين قادتها، كما أنه المختص بتعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وعزلهم، وكذلك سفراء الدولة وممثليها فى الخارج، وهو الذى يصدر قرارات تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، وربع أعضاء «مجلس الشيوخ» الغرفة الثانية فى البرلمان، ورؤساء وأعضاء المجالس المستقلة(!) والهيئات الرقابية، كما أن من سلطته أيضا إعلان حال الطوارئ فى البلاد، ودعوة الشعب للاستفتاءات بما فيها الاستفتاء على حل البرلمان، ومن حقه وحده منح أوسمة الدولة ونياشينها، وله حق العفو عن العقوبات الجنائية أو تخفيفها. ولكن من عجب الدنيا ونكدها، أن الرئيس المستحوذ على كل هذه السلطات الرهيبة، ليس محظورا عليه ازدواج الجنسية، وإنما يجوز طبقا للمادة «136»، أن يكون اكتسب (هو أو أبواه) جنسية دولة أخرى وأقسم على الولاء لها(!) مع أن بندا آخر فى المشروع الدستورى التعبان نفسه (المادة «163») حظر ازدواج الجنسية على رئيس الوزراء والوزراء، هذا إضافة إلى الحظر المماثل القائم حتى الساعة فى قوانين الدولة المصرية والمشمول به كل من يعمل (صغيرا أو كبيرا) فى السلك الدبلوماسى والقوات المسلحة، وكذلك أعضاء البرلمان! غير أن العشوائية وأسس وعوامل صناعة الاضطراب والفوضى فى دوائر الحكم العليا لا تقف عند هذا الحد، بل تصل إلى مستوى مرعب عندما تجد مثلا أن المشروع المهبب نفسه يمنح الرئيس فى المادة رقم «156سلطة» «وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها»، ثم يعود فى مادة أخرى (171) ويعطى السلطة عينها، أى وضع السياسة العامة والإشراف على تنفيذها، للحكومة ومجلس الوزراء.. وهو ما يعنى عمليا أن من يصحو ويقوم من النوم مبكرا (الرئيس أو الحكومة) هو الذى سيضع سياسة الدولة وينفذها من خلف ظهر صاحب السلطة الآخر! * طيب، مقابل هذا الجبل الأشم من الاختصاصات والسلطات الخرافية الممنوحة لرئيس الجمهورية، هل هناك وسيلة لمحاسبته وإخضاعه لقواعد المسؤولية السياسية أو الجنائية؟ أبدا، لا شىء فى المشروع الدستورى المشموم يشير إلى أى آلية محددة وواضحة تكفل حساب الرئيس عن أفعاله، فقط يوجد نص مُبهَم وشديد العمومية (البند «157») يتحدث عن شىء يُدعَى جريمة «الخيانة العظمى»، دون أن يحدد معناها ولا نطاق الأفعال التى تشملها (كانتهاك الدستور مثلا)، تلك الجريمة الغامضة إذا ارتكبها الرئيس فإن المحكمة الدستورية العليا (التى عيّن هو رئيسها وأعضاءها) هى المختصة بمحاكمته! * غير أننى أختم بنكتة نضحك عليها معا حتى أكمل غدا إن شاء الله باقى محتويات سلة المصائب الدستورية.. فأما النكتة فهى ما قضت به المادة «212» من اختصاص محاكم مجلس الدولة بنظر الطعون على قرارات ما يسمى «المفوضية الوطنية للانتخابات» المتعلقة بإجراءات ونتائج أى انتخابات تشرف عليها الست «المفوضية»، ومنها الانتخابات الرئاسية، غير أن النص نفسه يقرر أن الطعن على نتيجة عملية انتخاب الرئيس لا يجوز بعد إعلان هذه النتيجة.. بمعنى أن من حق أصحاب المصلحة الاعتراض أمام القضاء على أمر لم يُعلَن وليس له وجود أصلا، وكل سنة وأنتم طيبون!