لم تكن الدقائق التي أدركت فيها إسرائيل اندلاع حرب ضدها من قبل مصر وسوريا بالأمر السهل، خاصة ومع الأخذ في الاعتبار تباهي إسرائيل بأجهزتها الأمنية والمخابراتية، فقد كانت الحرب بمثابة إعلان للعالم أن تصريحات رؤساء الوزراء الإسرائيليين ورؤساء الأجهزة الأمنية بها، ما هي إلا تصريحات واهية لا حقيقة لها. لكن إسرائيل أدركت جيدا أنها لابد وأن تتعلم درسها الذي تلقته، ولهذا، فقد أمرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية جولدا مائير، بتشكيل لجنة تقصي حقائق للوقوف على أسباب الخسارة التي تلقتها من مصر وسوريا، وسُميت اللجنة آنذاك باسم "لجنة أجرانت". كشف الأرشيف الحكومي الإسرائيلي، عن وثائق سرية للجنة تقصي الحقائق التي شكلتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، عقب خسارة حرب أكتوبر 1973، أو حرب "عيد الغفران"، كما يطلقون عليها، حيث أفرج الأرشيف الحكومي أخيرا عن الوثائق ومحاضر الجلسات الخاصة بلجنة التحقيق، للوقوف على أسباب الخسارة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي، رغم تباهيه بقوته ومعداته الحديثة، إلا أنه ورغم ما نشرته المواقع الإلكترونية، وموقع الأرشيف الحكومي نفسه، مازالت هناك بعض الرقابة على الوثائق، التي بررتها الصحف بأنها ترجع لأسباب عسكرية وسياسية تتعلق بأمن البلاد. "جاءتني الحرب ولوزارتي مفاجئة لم أكن أتوقعها، آخذا في الاعتبار أن اندلاع الحرب كان مضادا ومناقضا لكل التقديرات التي كانت لدينا، ولكل ما يخص الوضع العسكري للجيش المصري"، بهذه الكلمات، بدأ وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، آفا إيفين، شهادته أمام لجنة "أجرانت"، في ديسمبر من عام 1973. في الشهادات والوثائق، التي كشف عنها الأرشيف الحكومي الإسرائيلي، أخيرا، في إطار سياسات وزارة الدفاع الإسرائيلية لفتح المواد الأرشيفية ذات القيمة التاريخية أمام الرأي العام، يحكي إيفين عن أن المسؤول عن التقديرات الأمنية والتوقعات الخاصة بالوضع الأمني والعسكري، هي شعبة المخابرات، وأن "الخط العام للحكومة، كان منع سياسة التعددية فيما يخص هذا الأمر". وأشارت الوثائق الإسرائيلية إلى أنه قبل يومين من اندلاع حرب أكتوبر، التقى وزير الخارجية إيفين في نيويورك مع نظيره الأمريكي هنري كسينجر، في أول لقاء مهني منذ تولى كسينجر وظيفته وزيرا للخارجية الأمريكية في نهايات سبتمبر من العام نفسه. وفي صباح اليوم نفسه، التقى رؤساء الأجهزة الأمنية في إسرائيل، لعرض الصورة الكاملة للتوقعات والتقديرات الأمنية، واستعدادات القوات في الجولان وخلف قناة السويس، إلا أنهم لم يتناولوا احتمالية الاستعداد لحرب في هذا الاجتماع. وفي لقاء رؤساء الأجهزة الأمنية، قال نائب مساعد رئيس جهاز "آمان" الإسرائيلي، العقيد جدعون جارا، إن "السوريين بدأوا تعزيز جبهتهم منذ فترة، وعلى الرغم من التركيز الكبير والمتابعة بشكل دقيق، فأنا لا أتوقع أن تقع حرب قريبة ولا هجوم سوري موسع في الفترة المقبلة". وأضاف جدعون، "في 4 أكتوبر من العام نفسه، أجرينا تدريبا واسعا لاحتلال سيناء، وكان من نتائجه تركيز قوات كبيرة في المنطقة، وإلغاء الإجازات، وإعادة من تم تسريحهم من الجيش، ومن أنهوا خدمتهم وما شابه ذلك". وأشارت بروتوكولات التحقيق التي احتفظت بها إسرائيل لفترة طويلة دون الكشف عنها، إلى أن وزير الخارجية إيفين تلقى معلومات مسبقة على خلفية استعداده للقاء كسينجر. وكان من بين المعلومات التي تلقاها، تقارير عن الاستعدادات المتزايدة في سلاح الجو السوري، وكذلك حالة الطوارئ الكاملة في الجولان، التي تضنت نحو 650 دبابة، و92 بطارية مدفعية. وقال إيفين أمام اللجنة، "لم يكن في التقرير أن شيئا كهذا قد يتسبب في احتياج وزارتي لإعلان تخوفها من احتمالات نشوب حرب قريبة". وتابع إيفين: "على أي حال، لم تكن احتمالات نشوب صدام في المنطقة على هامش جدول لقائي مع كسينجر، وتجدر الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة لم تكن تعرف شيئا عن احتمالات نشوب حرب قريبة"، وحاول إيفين توضيح شهادته، فقال: "على سبير المثال، سأشير إلى الموضوع الرئيسي للقاء، اقتراح كسينجر، دعوتي مرة أخرى إلى الولاياتالمتحدة بعد إنهاء الانتخابات الإسرائيلية في 30 أكتوبر، إلا أنها ستكون هذه المرة لواشنطن نفسها، وليس نيويورك، ويتم دعوة وزير الخارجية المصري آنذاك، الدكتور محمد الزيات، ويتطوع كسينجر بمحاولة تحريك المياه الراكدة بشأن المفاوضات بين الدولتين". وكان من ضمن لجنة تقصي الحقائق، لجنة "أجرانت"، رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، بروفيسور إيجال يادين، الذي أصر على استجواب إيفين عن عدم مناقشة مسألة تركيز وتعزيز القوات في لقاءه مع كسينجر، وهو ما دفع إيفين للرد قائلا: "إن مسألة عدم مناقشة هذا الأمر ليست شاذة تماما، وليست غريبة في حد ذاتها. أنا كتبت في شهادتي، على سبيل المثال، أنه في الفترة بين نوفمبر 1970 وحتى أبريل ومايو من عام 1973، كان هناك تمركز قوات الجيش المصري في أماكن متفرقة، ومع ذلك لم يتسبب في نشوب حرب. الوضع الأكثر جدية فعلا من ناحية الاستعدادات الإسرائيلية والأمريكية كان هو الوضع الأساسي في مايو 1973". وأشار وزير الخارجية الإسرائيلي إلى أن إسرائيل اعتقدت أن الهجوم كان قاب قوسين أو أدنى، إلا أنه في الولاياتالمتحدة كان هناك انقسام في الآراء، وهو ما جعلهم يعتقدون أن الهجوم في فترة الخريف غير متوقع. ولخص إيفين شهادته، زاعما أنه من بين عدة أشياء أخرى، كان الرئيس المصري، أنور السادات، يحاول خلق ضغط دولي على إسرائيل لاستكمال المفاوضات السياسية، وقال إيفين: "الحقيقة أن الصراع مر دون حرب".وزير الخارجية الإسرائيلي: إسرائيل اعتقدت أن الهجوم قاب قوسين أو أدنى.. لكن الولاياتالمتحدة اختلفت معها وجاء في بروتوكولات اللجنة الإسرائيلي، الأسئلة الموجهة للوزير إيفين، حيث وجه رئيس الأركان الأسبق يادين، عدة أسئلة ل"إيفين"، كان منها السبب الرئيسي في الصمت التام والتجاهل الذي قوبلت به مسألة تمركز القوات السورية والمصرية على الحدود، فقرر وزير الخارجية تلخيص إجابته في أن أحدا لم يتوقع نشوب حرب قريبة، بمن فيهم الأمريكان أنفسهم. وأضاف إيفين أنه في الخامس من أكتوبر، كانت هناك تطورات جديدة على الوضع، ففي الساعات المبكرة من صباح اليوم نفسه، وصلت للسفارة الإسرائيلية في واشنطن برقية من المستشار السياسي لرئيس الوزراء، وجاء في البرقية، أنه على ما يبدوا كانت هناك حاجة للحديث إلى وزير الخارجية الأمريكي بشكل عاجل، على مدار اليوم، وأنه في خلال وقت قصير، ستصل برقية تفصل هدف الحديث إلى كسينجر. إلا أنه ومع ذلك، والحديث ل"إيفين" خلال شهادته أمام لجنة التقصي، كان جدول أعمال كسينجر مزدحما جدا، وهو ما دفعه لإرسال الإسرائيليين إلى مستشار الأمن القومي، اتللواء برنت سكوكرابت، وقال إيفين: "جاء في الرسالة أنه وفقا للمعلومات التي أخذت في التزايد لدينا، فإننا مضطرون إلى أن نأخذ في اعتبارنا الاستعدادات العسكرية في سوريا ومصر، ووضع الاستعدادات التي اتخذتها كل دولة من الدولتين السابق ذكرهما، وعلى الأخص الاستعدادات المتزايدة على خط وقف إطلاق النيران، والتي قد تؤدي إلى: استعداد واسع من قبل الدولتين أو واحدة منهما، وهو ما يجعل إسرائيل في حاجة للهجوم على كليهما أو على واحدة منهما على الأقل، وأن تكون هناك نية من كليهما أو واحدة منهما، لأن تهاجم إسرائيل. وتابع إيفين: "رئيسة الحكومة، طلبت الإشارة إلى ما إذا كانت الدولتان تخشيان إسرائيل فعلا، وتخشيان من احتمالات هجوم إسرائيل عليهما. وعلى الجانب الآخر، إن كانت تلك الدولتين أو واحدة منهما على الأقل، بدأت أعمال مضادة ومعادية لإسرائيل، ومن المهم معرفة أن إسرائيل سترد بكل عدوانية وقوة على عمل كهذا، وإسرائيل تطلب من وزير الخارجية الأمريكي أن يؤكد على أن هذين الأمرين يعرفهما العرب والسوفييت جيدا". وإلى جانب البرقية، نُقل إلى الأمريكان طلب إحاطة من شعبة المخابرات الإسرائيلية في اليوم نفسه، وجاء فيها، أن هذا الطلب يصف احتمالية هجوم عربي على إسرائيل بأنها منخفضة جدا، وتصل إلى حدود شبه المعدومة، وأوضح إيفين، "رد وزير الخارجية الأمريكية كمن يرد على رسالة تهدئة، وقد أشار إلى أنه طلب بنفسه في اليوم ذاته مرتين، تقدير الوضع الذي أصدرته المخابرات الأمريكية عن الوضع في الشرق الأوسط، وأن تقديرات المصادر الأمريكية نفسها، وصفت الاستعدادات التي اتخذتها مصر وسوريا، بأنها دفاعية فقط لا أكثر".تقارير المخابرات الأمريكية أكدت أن استعدادات مصر وسوريا دفاعية.. ولا احتمالات للهجوم في وقت قريب وبشكل هادئ، نقل إيفين خطاب الخارجية الأمريكية لإسرائيل، وأخذ يصلي لأن يكون الأمر ما هو إلا دفاعيا فقط، وتابع: "كنا تقريبا بدأنا في الدخول ليوم الغفران، ولكن الوضع تغير في الصباح، مع وصول برقية عاجلة تلقاها إيفين من القدس، جاء فيها، "وفقا لمصادر استخباراتية أصيلة، فإن المصريين والسوريين سيشنون هجوما منسقا اليوم قبيل المساء". وأشارت تقارير "أجرانت"، إلى أن لجنة التقصي حاولت استيضاح كيف أنه لا يوجد في إسرائيل كلها عنصر واحد أو اثنين، يقومون بتحليل الأخبار التي تلقتها الوزارة، بما في ذلك وزارة الخارجية، على الرغم من التوصيات العديدة التي أوصت بها في عام 1963 في هذا الشأن. وقال إيفين إنه بدء من العام 1967 وما بعده، كانت السجلات الرسمية وغير الرسمية تشير إلى أن الشأن الاستخباراتي ناجح جدا، أي أنه لم يكن هناك أي سجلات أو قوائم تشير إلى وجود خلل في المنظومة المخابراتية، ولم يكن هناك ما يشير لوجود خلل في أي شيء، وأن الوضع السائد كان جيدا بشكل مناسب".نائب رئيس "الموساد": لم أتوقع أن أوقظ مساعد جولدا مائير لأخبره بنشوب حرب على إسرائيل أما مساعد رئيس المخابرات الإسرائيلية، "الموساد"، فقد أكد خلال التحقيقات أنه لم يكن يتوقع نشوب حرب قريبة، خاصة مع الأخذ في الاعتبار الوضع المصري والسوري الأمني والاقتصادي، وقال تسفي زامير، نائب رئيس الموساد، إنه لم يكن يتوقع يوما أن يوقظ نائب رئيسة الوزراء جولدا مائير، ليخبره أن إسرائيل تعرضت لهجوم عسكري.