على مدى أيام الأسبوع الماضى نشرت «التحرير» سيل أخبار وتقارير ومعلومات خطيرة، كان يفترض أن تفجر دويًّا هائلا وتثير عاصفة من ردود الفعل، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث للأسف الشديد، مع أن هذه المعلومات تستدعى إلى الأذهان ذكريات أليمة لمأساة وطنية دامية شهدنا فصولها واكتوينا بنارها سنين كئيبة من تاريخنا القريب.. المأساة تلك تبدو الآن على وشك التكرار، ربما بكلفة أعلى وتخريب أوسع نطاقا. فأما الأخبار المفزعة فتقول باختصار إن شبابًا مصريًّا فى عمر الزهور (لا يعرف أحد عددهم) جرى تشجيعه وتحريضه من قبل جماعات الظلام والتشوه العقلى والروحى المهيمنة حاليًا على مسرح السياسة والحكم فى البلاد، على مغادرة الوطن والانخراط فى فيالق وعصابات مسلحة متشظية ومتشرذمة تنسب نفسها إلى الثورة السورية التى بدأت فعالياتها سلميّة وراقية، لكن القمع الوحشى الذى استخدمه النظام لإخمادها وسحقها نجح فى استدراج قطاع من الثوار إلى مقتلة هوجاء ومباراة عنف مروع ومنفلت يكتسى بملامح طائفية بغيضة وخارج عن أى سيطرة، وهو أمر اتسع واستفحل بمرور الأيام، مما جعل الكثرة الغالبة من شعبنا الشقيق تبدو على شاشات التلفزة وكأنها طُردت تمامًا خارج المعادلة وصارت مسجونة فى دور ضحية عواصف التفجير والتهديم والقتل المجانى اليومى، أما الأهداف النبيلة التى من أجلها اشتعل الحراك الثورى، فقد نُحيت وتشوشت وغابت خلف كثافة غبار الخراب وشلالات الدم. وأعود إلى شبابنا المصرى الذى رماه المجرمون (كما رموه فى أفغانستان والبوسنة وكوسوفو واليمن وألبانيا والعراق والصومال، وربما دولة «بورما» قريبًا) فى آتون عنف أهوج وحرب عبثية تمزق الآن الوطن السورى الحبيب، إذ تحشره، دولة ومجتمعًا، بين إجرام النظام الأسدى الفاسد وارتكابات عصابات وجماعات أخرى متنوعة ومتنافرة ومتنافسة (مستوردة من أقطار وأصقاع بعيدة شتى) أغلبها يجتمع ويلتقى على التعصب والتطرف فحسب، فضلا عن آثار الحبسة الطويلة داخل جدران ذهنية فقيرة مشبعة بيأس وجهل مروعين يتجليان فى سلوكيات وعربدات تلامس حدود الجنون من فرط القسوة والهمجية والخصام الشديد لقيم وتعاليم الدين الحنيف الذى تتمسح فيه هذه الجماعات. لقد أنبأتنا «التحرير» بأن خمسة على الأقل من الفتية المصريين الأغرار (ريفيين كلهم) قُتلوا مؤخرا على أرض سوريا وهم يمارسون ما يظنونه «جهادًا» حسب السموم والغثاء الفكرى الذى يبثه ويحشره شيوخ وزعماء جماعة الجهالة والظلام فى عقول أبنائنا هذه الأيام، فمن هؤلاء شباب أعضاء فى جماعة «حازمون» المنتسبة إلى مرشح الرئاسة المستبعَد بسبب جنسية أمه الأمريكية، الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، الذى لم ينفِ وجود بعض أتباعه يحملون السلاح فى سوريا، بل اكتفى بأنه لم يرسلهم إلى هناك (مثلما اكتفى فى السابق بتحريضهم على النوم فى الشارع بجوار لجنة الانتخابات، ثم ذهب لينام قرير العين فى بيته)، ولكنه أعلن تشجيعه لهم وقال إنه «فخور بهم» ووصفهم بأنهم «طليعة الشرف»!! الموقف نفسه اتخذته جماعة «الإخوان»، فرغم أنها تجمع فى يديها كل سلطات الحكم فى البلد حاليًا، فإنها لم تر أية مشكلة فى سفر بعض شبابها إلى سوريا لكى ينخرطوا فى مهرجان العنف المشتعل هناك، فقط قالت مصادرها إنها (أيضا) لم «تجبر ولم تطلب من أحد السفر، لكنها لا تمانع»!! إذن حضرتها وفضيلة الشيخ حازم كلاهما «لا يمانع» فى سفر شباب من أتباعهما إلى سوريا (أين دُرِّبوا على فنون القتال؟) ولا يشعران بأى قلق من حقيقة أن دخول هؤلاء الشباب المسلح إلى أراضى هذا القطر الشقيق يتم بتعاون وثيق ومساعدات فنية ولوجيستية وعسكرية تقدمها مجموعة عمل استخباراتية متمركزة حاليًا فى تركيا ويشارك فيها مع الأتراك.. عناصر من مخابرات غربية وعربية عدة من بينها أمريكا وفرنسا وقطر.. إلخ!! هل يذكِّرك هذا بما جرى فى سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضى فى أفغانستان وانتهى بفيض تنظيمات الإرهاب والعنف، ومنها «قاعدة» بن لادن والظواهرى، وغيرها؟! طبعا هناك أسئلة أخرى كثيرة موجعة، من نوع السؤال عن المكان الذى تنام فيه أجهزة الأمن هذه الأيام؟ وما العلاقة الشريفة بين هذا النوع من الأفعال والتصرفات الهوجاء الرعناء، وبين قوانين الدولة المصرية التى تحظر (كما قوانين كل دول الدنيا) الزج بمواطنين مصريين فى عمليات قتالية (أهلية) داخل أو خارج الحدود، والانخراط فى تنظيمات وتشكيلات عسكرية أجنبية؟! غير أن السؤال الأهم هو: ما الذى يريده بالضبط ورثة الحكم الجدد لهذا البلد؟ ألا تكفيهم المأساة المتمددة فى منطقة سيناء الآن، حيث شجعت البيئة السياسية «الصديقة للجهالة والتطرف» جماعات العنف الأعمى على استثمار مخلفات جرائم نظام مبارك واختطاف هذا الجزء العزيز من الوطن؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.