أنت ضعيف. اعلم أنك ضعيف. اختبرت هذا الضعف سابقًا، حين رصصت كلماتك بعضها إلى جوار بعض فوجدتها لا أكثر من هراء، محض هراء. اختبرت هذا الضعف حين استطعت فى لحظة شجاعة أن أنزع عنكَ حجابكَ وأنظر إليك عينًا فى عين، أنظر فى جبهتك فأرى ما كان مكتوبًا هناك، وأتذكر العلامة، التى أُخبرنا عنها، أرى الكلمة بين حاجبيك، فلا أغتر بأىٍّ مما فعلت. لم يكن أمامى سوى أن أثق فى نفسى، وفى حكمى على الأمور. لو سألت مَن إلى جوارى كما فعل كل من إلى جوارى، لتلقيت منه الإجابة التى تلقاها ممن إلى جواره، ممن إلى جواره، ممن إلى جواره، وصولا إليك أيها الدجال. ولضللت، فكلهم يردد ما تقول أنت. علمت من قبل أنك ستخدع أناسًا كثيرين. وعلمت أنك لم تكن لتخدعهم لو لم تكن ماهرًا، لو لم تكن عالمًا بمواطن ضعفهم، لو لم تكن واثقًا أن معظمهم لا يستخدمون عدوك الأول، العقل، بل يتركونه حتى تفرغ بطارية شحنه، وتتلاشى قوة دفعه، ويعلوه الصدأ. علمت من قبل أنك ستأتى من الأفعال بالأعاجيب، وأنك ستلعب على جبننا، على خوفنا المزمن من غد، على ضيق معارفنا، وعلى طمعنا أيضا، على رغبتنا فى إلقاء الحمول، وعلى حبنا للراحة والدعة. وعلمت أنك أنت نفسك ستتهم من لا ينخدع فيك بأنه دجال، وأن خلقًا كثيرًا سيفتنون بك. لذلك لم يبهرنى ما فعلت. لقد رأيت غيرك يفعلون أكثر من ذلك. يبدو أنك مبرمج على زمان قديم، على معارف قديمة، وأن خط إنتاج موديلك توقف. كارثة الإنسان أنه لا يجيد السباحة فى الجديد، فيخاف منه، وإن نزل فيه يصارعه. وحده النبيه، الصبور، يتعلم مؤالفته، خطوة خطوة، ثم يغوص فى أعماقه ويركب أمواجه. علمت أنك تكره الأرواح الوثابة. وحده الضعيف يكره الأرواح الوثابة، يكره التحدى، وحده المزيف، يكره المراجعة، ويكره الأسئلة. رأيتك تقرب من يؤثرون السلامة، ويحبون منتصفات العصى. ومنتصف العصا -كما لا تعلم يا أجهل الخلق- أضعف نقطة فيها، والأسهل كسرًا فيها. انثناءةٌ بعزمٍ على ركبةٍ وصوتُ طرقعةٍ.. وانتهى الأمر. علمت أنه يتبعك أراذل الناس، كل شتّام وسبّاب وصخّاب فى الأسواق، الكذّابون، الجهلة، الحمقى، الأغبياء. علمت ذلك فارتديت نظارة الفراسة، وسددت آذانى عن الدعاية، ولم أنخدع بحركات «الكُهن». إنما عينت نفسى قاضيًّا خاصًّا، ووضعتك على قدم المساواة مع أشباهك، وأصدرت حكمًا لا يخضع لقناعاتى السابقة، بل يخضع لما رأيته -بموضوعية- فى لحظة الحياد تلك. وكان حكمى أنك دجال. أو رئيس الدجالين. أو رئيس فرقة من الدجالين تقتل الدجالين الآخرين لكى تنفرد بالدجل، ولا تنكشف. ثم تقتل العاقلين من الناس. قلت لنفسى: أنت الدجال، ونحن نعيش فى فتنة الدجال، التى يختلط فيها الليل بالنهار، ويرتدى فيها الباطل ثوب الحق. أيها الدجال، لم تكن مهمة كشفك مستحيلة، بل ولا حتى صعبة. فى الحقيقة لم يكن صعبًا سوى الإعداد النفسى لقرار كشفك. ثم صار صعبًا القرار: هل أواجهك أم أتجاهلك؟ قررت سابقًا تجاهلك. ليس خوفًا منك، أبدا، فأنت مجرد روح مختلة، إنما استصغارًا لك، وانشغالا بما هو أهم، كالسباحة فى الجديد -مثلا. إنما الآن أعود وأقرر أن أواجهك. لقد أثبت السكوت أنه لغة أرقى منك ومن صخَّابى الأسواق. أرقى لدرجة أنكم لا تفهمونها. أرقى لدرجة أنهم يظنونها ضعفًا، أو قلة فى العلم. أقرر أن أواجهك لأنك لا تكف عن التمدد إذا جبُنّا عن مواجهتك وآثرنا السلامة. فى مواجهتك، لن أستخدم سوى الكلمة، فلا تحتاج إلى أكثر منها لتنهار أيها الضعيف. أما أنت، لن أطلب منك مقارعة الحجة بالحجة، أنت أعجز عقلا من ذلك. فاستخدم ما تريد. أيها الدجال. لقد حولت حياتنا إلى جحيم، إلى جحيم لا يطاق. جحيم أهون منه الموت. ياللا، إلىَّ بأحد المعاتيه. خلاص. لم أعد أتحمل كل هذا العفن. لم أعد أتحمل برميل الروث الذى أحطتنا به.