لم تكن أم كلثوم بالنسبة لى صوتًا يأتى من الراديو فقط، ولا صورة معلّقة على جدار الذاكرة الجماعية، بل كانت جزءًا حيًا من طفولتى، مشهدًا يتكرر فى شارع هادئ بالزمالك، ووجهًا مألوفًا يمر أمامى فى صمت مهيب، قبل أن أدرك لاحقًا أننى كنت أجاور أسطورة. كنت صغيرًا، أمرّ يوميًا تقريبًا على سور فيلتها فى الزمالك فى طريقى لمدرستى الابتدائية.. سور عادى لبيت غير عادى. خلفه كانت «الست» تظهر أحيانًا كما لا تظهر على المسرح: بلا أضواء، بلا تصفيق، بلا منديل شهير رأيتها أكثر من مرة وهى تروى حديقة بيتها بنفسها، تمسك الخرطوم أو الإبريق، تتحرك بهدوء، وكأنها تروى روح المكان قبل أن تروى الزرع. كانت تجلس أحيانًا فى الحديقة، تشرب الشاى فى هدوء كامل، لا شىء فى المشهد يوحى بأن هذه السيدة هى نفسها التى تُسكت الشوارع إذا غنّت. كنت أراها أيضًا وهى تدخل وتخرج من بيتها، تركب سيارتها السوداء، بوقار يشبه صوتها. لا عجلة، لا استعراض، فقط حضور يفرض الاحترام دون أن يطلبه. لم أكن أفهم وقتها لماذا كان الكبار يتهامسون إذا ظهرت، ولماذا يخفُت الكلام فجأة، لكننى كنت أشعر أن هناك شيئًا مختلفًا... شيئًا أكبر من الشارع والحى. كبرت قليلًا، وكبر معها وعيى. حضرت واحدة من حفلاتها. لا أذكر التاريخ بدقة، لكننى أذكر الشعور جيدًا. أذكر الصمت قبل أن تبدأ، وأذكر كيف كان الصوت يملأ المكان، لا بالأغنية فقط، بل بالإحساس. كانت تغنى، والناس لا تستمع فقط، بل تعيش. كان الزمن يتوقف عند «إنت عمري»، ويتباطأ عند «الأطلال»، ويمتد بلا نهاية فى مقطع يُعاد أكثر من مرة لأن القلوب لم تشبع بعد. ثم جاء اليوم الذى لم يكن يشبه أى يوم. يوم رحيل أم كلثوم. شعرت القاهرة وقتها كأنها فقدت صوتها. الشوارع كانت مختلفة، الوجوه حزينة بصدق، لا تمثيل فيه ولا مبالغة. عشت جنازتها المهيبة، ذلك المشهد الذى لم يتكرر: ملايين خرجوا، رجال ونساء، فقراء وأغنياء، مثقفون وبسطاء، كلهم يسيرون خلف نعش واحد، كأنهم يودّعون جزءًا من أنفسهم. لم تكن جنازة مطربة، بل جنازة وطن. وطن كان يجد فى صوتها عزاءه فى الهزائم، وفرحه فى الانتصارات، ورفيق سهره فى الليالى الطويلة. يومها فهمت لماذا كان سور فيلتها صامتًا مهيبًا، ولماذا كانت وهى تروى حديقتها تبدو كمن يعرف أنه زرع شيئًا سيبقى بعده طويلًا. اليوم، كلما مرّ صوتها صدفة، أو رأيت صورة قديمة لها، أعود طفلًا يعبر شارع الزمالك، ينظر خلف سور، ويرى سيدة تشرب الشاى فى الحديقة، دون أن يدرى أنه يشاهد التاريخ وهو يعيش حياته العادية. أم كلثوم لم تكن مجرد ذكرى... كانت حياة كاملة، عشناها معها، وبقيت تعيش فينا حتى بعد الرحيل.