سميحة شتا تأتى استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة فى لحظة دولية تتسم بتصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وتزايد الاضطرابات فى النظام العالمى الذى تشكّل عقب نهاية الحرب الباردة ففى ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تعكس الوثيقة توجّهًا مختلفًا فى مقاربة السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة، يقوم على تغليب منطق المصلحة والقوة الاقتصادية والعسكرية على خطاب القيم ونشر الديمقراطية. ولا تكتفى الاستراتيجية بتحديد مصادر التهديد المباشر للأمن الأمريكي، بل ترسم إطارًا أوسع لإعادة ترتيب أولويات واشنطن فى آسيا وأوروبا ونصف الكرة الغربي، وتبعث برسائل واضحة إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء حول شكل النظام الدولى الذى تسعى الولاياتالمتحدة إلى تكريسه، ودور الصين فيه بوصفها التحدى الاستراتيجى الأبرز فى المرحلة المقبلة. اقر أ أيضًا | موسكو.. فرصة لضبط العلاقات من وجهة النظر الصينية، ترى «دويتشه فيله» أن بكين لا تتعامل مع استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة الصادرة عن إدارة الرئيس دونالد ترامب بوصفها مجرد وثيقة توجيهية داخلية، بل باعتبارها إعلان نوايا يعكس تحوّلًا أعمق فى طريقة تعامل واشنطن مع آسيا، ومع الصين تحديدًا فرغم احتفاظ الوثيقة بلغة مألوفة عن «منطقة المحيطين الهندى والهادئ الحرة والمفتوحة» والعمل مع شبكة من التحالفات، إلا أن بكين ترى فيها انتقالًا واضحًا من خطاب القيم والديمقراطية إلى منطق الصفقات، والتفوق الاقتصادي، والردع القائم على القوة والمصلحة. تُلاحظ الدوائر الصينية أن الاستراتيجية الأمريكية تتخلى عمليًا عن توصيف الصين بوصفها «منافسًا أيديولوجيًا» يسعى لفرض نظام عالمى بديل، وهو توصيف كان حاضرًا بقوة فى وثيقة عام 2017، حيث تكشف المقارنة بين استراتيجية الأمن القومى لترامب فى ولايته الأولى والاستراتيجية الجديدة عن تحوّل فى أسلوب التعامل الأمريكى مع الصين أكثر منه تغييرًا فى الهدف. ففى حين وصفت وثيقة 2017 الصين صراحة بوصفها «منافسًا أيديولوجيًا» يسعى لتقويض النظام الدولى الليبرالي، تتجنب الاستراتيجية الأخيرة هذا الخطاب، وتركّز بدلًا من ذلك على إدارة المنافسة عبر أدوات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، مثل إعادة التوازن التجاري، وحماية سلاسل التوريد، والحفاظ على التفوق الأمريكي. ومن منظور بكين، يعكس هذا التحول إدراكًا أمريكيًا بأن الصدام القيمى لم يعد مجديًا، من دون أن يعنى ذلك تخلى واشنطن عن هدفها الأساسى المتمثل فى احتواء صعود الصين، وإنما إعادة صياغته ضمن إطار أكثر براجماتية وأقل أيديولوجية. هذا التحول فى الخطاب يُعد، من وجهة النظر الصينية، تطورًا إيجابيًا نسبيًا فالتأكيد الأمريكى على عدم «فرض التغيير الديمقراطى أو الاجتماعي» واحترام سيادة الدول يتقاطع، ظاهريًا على الأقل، مع المبدأ الذى ترفعه بكين منذ عقود بشأن عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول وقد أشار محللون صينيون إلى أن مثل هذه اللغة تُخفف من حدة الصدام الأيديولوجي، وتفتح المجال لعلاقات أكثر براجماتية، وهو ما عبّرت عنه الباحثة إيميلى هاردينج فى تحليلها حين قالت إن «أجندة الديمقراطية انتهت» فى هذه الوثيقة، وهو تقييم رحبت به دوائر فى بكين باعتباره انسجامًا مع رؤيتها للعلاقات الدولية القائمة على السيادة لا القيم المفروضة. إلا أن تقارير «دويتشه فيله» تشير إلى أن هذا الارتياح الصينى لا يشمل ملف تايوان، الذى يحتل مكانة محورية فى الاستراتيجية الجديدة، إذ تُصوَّر الجزيرة لا فقط كقضية أمنية، بل كأصل اقتصادى واستراتيجى بالغ الأهمية بسبب موقعها وسلسلة إمدادات أشباه الموصلات العالمية ورغم تأكيد واشنطن أنها لا تدعم «تغييرًا أحادى الجانب للوضع الراهن»، ترى بكين أن استمرار الحديث عن «ردع الصراع» عبر الحفاظ على التفوق العسكرى الأمريكى يرسل إشارات سلبية، ويُفسَّر عمليًا على أنه دعم غير مباشر لقوى «استقلال تايوان»، وهو ما عبّر عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قوه جيا كون بدعوته الولاياتالمتحدة إلى التعامل مع القضية «بأقصى قدر من الحكمة» والتوقف عن دعم النزعات الانفصالية. وتُضيف بكين أن تركيز واشنطن على تايوان باعتبارها عقدة فى طرق التجارة العالمية يعكس رؤية نفعية تختزل القضية فى وظيفتها الاقتصادية والجيوسياسية، لا فى كونها مسألة سيادة ووحدة وطنية بالنسبة للصين. ومن هذا المنظور، ترى الصين أن أى ربط بين أمن تايوان وأمن سلاسل التوريد العالمية يُستخدم لتبرير استمرار الوجود العسكرى الأمريكى فى محيطها الإقليمي. ويشير ديفيد ساكس فى تحليله بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكى إلى أن الاستراتيجية الأمريكية تطلب من حلفاء واشنطن فى آسيا «الدفع أكثر والقيام بالمزيد» من أجل الدفاع الجماعي، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، فى إطار ما يُعرف ب»سلسلة الجزر الأولى». وتعتبر بكين أن هذا النهج يعمّق الاستقطاب الأمنى فى المنطقة، ويحوّل الدول المجاورة إلى أدوات فى استراتيجية احتواء موجهة ضدها، رغم أن الوثيقة تتجنب استخدام هذا المصطلح صراحة. كما ترى الصين أن إغفال قضايا مثل البرنامج النووى الكورى الشمالى أو الدور المحورى للفلبين يعكس أن معيار الاهتمام الأمريكى ليس الاستقرار الإقليمى الشامل، بل مدى إسهام كل دولة فى موازنة النفوذ الصيني. ومن منظور بكين، فإن التركيز الأمريكى على «التفوق الاقتصادي» بوصفه أداة ردع أساسية يكشف عن إدراك متزايد فى واشنطن بأن الصراع مع الصين لن يُحسم عسكريًا بسهولة. إلا أن الصين ترى فى الوقت نفسه أن سياسات الرسوم الجمركية والضغط التجاري، التى سببت توترًا حتى مع حلفاء الولاياتالمتحدة فى آسيا، تُضعف مصداقية هذا الطرح، وتدفع دول المنطقة إلى البحث عن توازنات بديلة بدل الارتهان الكامل للقيادة الأمريكية. الأكثر إثارة للانتباه من وجهة النظر الصينية هو البعد العالمى للاستراتيجية، ولا سيما إعادة توجيه الاهتمام الأمريكى نحو نصف الكرة الغربي، فى ما يشبه إحياءً معدّلًا لمبدأ مونرو فتعهد واشنطن بكبح «النفوذ الخارجى المعادي» فى أمريكا اللاتينية يُقرأ فى بكين باعتباره محاولة لتطويق الصين عالميًا، ومنعها من توسيع شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية خارج آسيا، كما أشار محللون فى المجلس الأطلنطى إلى أن هذا يعكس قلقًا أمريكيًا عميقًا من تمدد النفوذ الصينى فى مناطق تقليدية للنفوذ الأمريكي. فى المحصلة، ترى الصين أن استراتيجية ترامب الجديدة أقل أيديولوجية وأكثر صراحة فى اعتمادها على منطق القوة والمصلحة، ورغم أن تخفيف خطاب «نشر الديمقراطية» يُعد مكسبًا تكتيكيًا لبكين، فإن جوهر الوثيقة لا يزال يقوم على احتواء صعودها، سواء عبر الردع العسكرى فى محيطها الإقليمى أو عبر الضغط الاقتصادى عالميًا. ومن هذا المنطلق، تتعامل الصين مع الاستراتيجية لا كفرصة لشراكة متكافئة، بل كتحدٍّ طويل الأمد يتطلب منها تعزيز قدراتها الذاتية، وتوسيع شبكة شراكاتها، والاستعداد لمنافسة استراتيجية عنوانها الأساسي: من يملك النفوذ الاقتصادى والتكنولوجى فى القرن الحادى والعشرين.