المؤشرات عديدة، وكلها تكشف عن أننا ذاهبون إلى بدء تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق السلام، الذى تم التوصل إليه برعاية شخصية من الرئيس الأمريكى ترامب، بعد تنفيذ الأولى منها بوقف إطلاق النار فى قطاع غزة فى العاشر من أكتوبر الماضي، وإعطائه الصبغة الدولية بموافقة مجلس الأمن عليه فى نوفمبر الماضى فى القرار 2803. فقد أعلن ترامب اعتزامه بدء المباحثات قبل الاحتفالات بعيد الميلاد، ومنها أيضاً كلام نتنياهو، وبدلاً من أن تشيع مثل هذه المواقف التفاؤل، بقرب نهاية مأساة إنسانية متفاقمة، عاشها سكان القطاع أكثر من عامين، فالوقائع على الأرض تخلق حالة تشاؤم، وتثير مشاعر الخوف والقلق، والأسباب عديدة، نتوقف عند بعضها.. فى المرحلة الأولي، كانت هناك أهداف إسرائيلية محددة للسير فيها، فى مقدمتها الإفراج عن أسراها الأحياء، وتسليم جثامين القتلي، وهو ما تم ماعدا جثة واحدة، مما أنهى (الصداع) فى رأس نظام نتنياهو وتحالفه اليمني، من احتجاجات أسر الأسرى اليومية، وبعدها لم يلتزم نتنياهو بالقاعدة المعروفة (عندما تفاوض لا تقاتل)، فالعمليات العسكرية للجيش الإسرائيلى لم تتوقف، كما جاء فى البند الثالث، ونتج عنها سقوط أكثر من 600 شهيد، وضعفهم من الجرحى، كما احتفظت باحتلالها نصف مساحة القطاع، رغم أن الاتفاق ينص على تراجع القوات الإسرائيلية إلى ما وراء الخط الأصفر، كما خالف البند الثامن الخاص بتدفق المساعدات وإعادة تأهيل البنية التحتية، حيث لم تسمح سوى بدخول 25 بالمائة من المتفق عليه. لم تتوقف تل أبيب عند ذلك، فقد حاولت مؤخراً افتعال أزمة مع مصر، وخلق أمر واقع، يكرس العودة إلى فكرة التهجير القسرى عبر فتح معبر رفح لخروج أهالى غزة عبر تصريح مكتب منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية الذى اتسم بالأكاذيب، عندما أشار إلى أنه (وفقاً لاتفاق إطلاق النار سيتم فتح المعبر خلال الأيام القادمة حصرياً، لخروج سكان القطاع إلى مصر بالتنسيق مع القاهرة)، وكان الرد المصرى حاسماً، عندما أعلنت أن التهجير خط أحمر لن تقبل به، ولن تقبل بفتح المعبر من جانب واحد، بالمخالفة لخطة الرئيس ترامب فى البند ال 12، الخاصة بعدم إجبار أحد من سكان القطاع على مغادرة أرضه، وله حق الخروج والعودة الطوعية، ولأن الأمر يجب ألا يمر، فقد توافقت الدول الثمانية التى شاركت فى لقاء ترامب الشهير، وفى قمة شرم الشيخ للسلام، على الرفض التام لهذا المسعى، والتأكيد على التنفيذ الكامل لبنود الاتفاق. وإذا كان هذا هو حال المرحلة الأولي، فماذا عن التعاطى مع الثانية، وهى الأهم والأخطر، والحافلة باستحقاقات عديدة صعبة، أخشى أن نكون أمام إعادة إنتاج لمقترح الرئيس ترامب فى فبراير الماضي، بنيته للسيطرة وامتلاك قطاع غزة، من خلال الهيكل السياسى والإدارى لها فى هذه المرحلة، الذى يفيد فى (إدارة الكرة الأرضية)، وليست غزة بمساحتها التى تبلغ 365 كيلو متراً، والذى سيتم عبر (مجلس السلام الدولي)، بقيادة ترامب شخصياً، وعضوية عشرة من قادة دول عربية وغربية. وهو بمثابة مرجعية لكل ما يتعلق بتفاصيل العمل فى القطاع، والذى سيقوم عليه مجلس تنفيذي، يضم مستشارى ترامب وكوشنر وويتكوف، مع مسئولين من الدول المشاركة فى المجلس، وبعدها حكومة تكنوقراط فلسطينة تضم من 12 إلى 15، نفس المشاكل تواجه (قوة الاستقرار الدولية) فهناك دول عربية وإسلامية تتحفظ على المشاركة فيها، خاصة فى ظل غياب وحسم طبيعة دورها، وهل ستتولى مسئولية عملية نزع سلاح المقاومة؟، والتى يحيطها غموض شديد، عن التوقيت والكيفية، حيث ترفض تل أبيب أى مشاركة قوات من تركيا وقطر، على خلفية استضافتهما لقادة حماس. كما فَتَرَ حماس دول مثل أذربيجان، وأندونيسيا، نقطة أخرى خطيرة، لقد استغلت تل أبيب الاهتمام العالمى بما يجرى فى غزة، فراحت تخلق أمراً واقعاً خطيراً فى الضفة الغربية، حيث تعتبرها إسرائيل أكثر منطقة مثيرة للقلق، بحكم الجوار، وتتعامل معها على أنها الساحة الأكثر إرباكاً لأجهزة الأمن، وقد أعلنت مؤخراً عن خطة لاستثمار730 مليون دولار على مدى خمس سنوات، تشمل نقل قواعد عسكرية وتوسيع البنية التحتية للمستوطنات، و179مليون دولار لإنشاء 17 مستوطنة جديدة، فى إنهاء لفكرة الدولتين. المخاوف تتزايد مع تصريحات قادة إسرائيل الأخيرة، نتنياهو يتحدث عن استمرار وبقاء سلطة السيادة الأمنية، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، فى أيدى قوات الاحتلال، ناهيك عما قاله رئيس الأركان آيال زمير، عن الخط الأصفر، واعتباره خطاً حدودياً جديداً، يوفر دفاعاً متقدماً للمستوطنات، وخط هجوم ضد أى نشاط معادٍ، مما يعنى نية عدم الانسحاب إلى الخط الأحمر.. فهل هذه حكومة تسعى بالفعل إلى التوصل إلى سلام، أو البدء فى عملية إعادة إعمار؟، أظن الإجابة سهلة. وبعد، وعلى عكس الكثيرين، زادت مخاوفى من لقاء ترامب - نتنياهو فى 28 من الشهر الحالي، والتى قيل إنها ستشهد ضغوطاً أمريكية على الثاني، ودفعه إلى الدخول فى المرحلة الثانية، فقد ينجح فى تغيير بعض بنود الخطة، أو إعطاء تفسيرات مختلفة لها، هذه كلها محاولات للهروب من الطريق الصحيح والوحيد، فحل القضية الفلسطينية معروف، إذا توافرت الإرادة السياسية الدولية، وهو انسحاب إسرائيلى من الأراضى الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية وفقاً للقرارات الدولية وحدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. أخشى أن نكون خرجنا من مرحلة (السيئ إلى الأسوأ).