ممدوح رزق تستدعى حوارات «كتاب كل شيء سيرتي.. كل شيء خيالي» والتى أجرتها الكاتبة نسرين البخشونجى بجهد يستحق الإشادة؛ تستدعى هاجس «النزوح» بأشكاله وصوره المتعددة ليس النزوح بمعناه المكانى كحركة قسرية أو اضطرارية عن «البيت» أو «الوطن» فحسب، وإنما الهجر الاستباقى المتعسف لحياة أصلية، مجهولة، يقاوم «النازح» منذ لحظته الأولى اختطافه خارجها، وإن بقى فى «مكانه» حياة غير مدركة، تأسس على غيابها كل ما يُشكّل حتمية الواقع، حيث لا كفاح لاستعادتها إلا عبر الشروط القهرية لأثر «النزوح» الكتابة هى كل محاولة لاسترداد تلك الحياة الغامضة. المقاومة التى تخلق الفكر والفعل لدى الكائن، ومن ثمّ تتيقظ أحيانًا إلى كونها كذلك فتوثق وجودها حسيًا تتحوّل إلى نص ملموس، لا يؤكد ويوطد مجابهة النازح لقدره فقط، وإنما يجعل هذه المجابهة قادرة على الاستمرار فى خلق نفسها بواسطة صيرورة الخيال من هنا يصبح النزوح استعارة أدبية؛ أرق جمالى يتأمل ويُشرّح ويكتشف ماهية العالم ويفككها ثمة أمثلة فى هذا الكتاب الصادر عن دار صفصافة يجدر التوقف عندها بهذا الشأن. «كما هو الحال فى معظم الدول الشمولية، كانت الأهداف الأولى للهجوم فى الجمهورية الإسلامية الإيرانية هى النساء والأقليات والكتاب والشعراء والفنانين والصحفيين؛ لذلك منذ بداية الثورة، بصفتى امرأة وكاتبة وقارئة ومعلمة وأم، وجدت نفسى معارضة للنظام، ولم تكن هذه المعارضة سياسية فحسب. لم أكن أنتمى إلى أى جماعة أو منظمة سياسية، وكانت هذه المعارضة وجودية، وكان عليّ أن أقاتل من أجل الدفاع عن القيم والمبادئ التى شكلت هويتي». كلمات الكاتبة الإيرانية الأمريكية آذر نفيسى تُلهم بالاستفهام حول إلى أى مدى يصمد الارتباط المجرّد بين السياسى والاجتماعى ويقين الاغتراب إلى أى مدى يمكن لمفهوم «المنزل الكبير» أن يبقى معزولًا عن جحيمه أفكر فى أن «الوطن» غنيمة كتابية فى المقام الأول، كالعائلة وشتى الانتماءات الجماعية المتسلّطة، كابوس خام، معرفى، يتم تشكيله ضمن ألعاب البصيرة لإدراك الغربة بمعناها غير المقيّد والأكثر جذرية. الانفصال الجوهرى عن الأرض، البيت، القطيع البشرى، والذى يبقى دائمًا قيد التغاضى والرجاء والتقنّع. لإدراك «المكان» كحضور مصطنع، عدائى، تم بتره بالضرورة عن الهوية الكونية الأسبق من الميلاد والموت، التى جرى انتزاعك منها فى لحظة خارج الزمن، حيث لا يمكن تذكرها. «أنا مهتم بتحركات الناس حول كوكبنا فى الوقت الحالى، التدفق الهائل للناس من مكان إلى آخر بسبب الحرب وتغير المناخ والصعوبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية؛ لذلك سافرت كثيرًا خلال العام الماضى. كنت مع الناس، فى المخيمات، على الطريق، فى شوارع المدن، أتحدث معهم، وأحاول أن أفهم ما يعانى منه الإنسان عندما يضطر إلى ترك وطنه. بطريقة ما، هذه القضايا قمت بعرضها من قبل فى كتب أخرى، لكننى الآن منحتها بعدًا ذاتيًّا أكثر؛ لأننى كنت أيضًا شخصًا نازحًا ذات يوم، كنت ذات يوم ذلك الشخص الذى تُرك واقفًا بلا شيء، لا شىء على الإطلاق، فى أرض غريبة غير أرضه، فلا يمكننى ببساطة أن أغمض عينى وأبتعد عن محنة شخص آخر مماثلة. على الأقل لا أستطيع، بل أرغب فى معرفة ما الذى قاد هذا الشخص إلى هنا؟ وكيف نجا؟ وما الذى ينوى فعله بعد ذلك؟ أتمنى أن أتمكن من الكتابة عن هذه الأشياء بطريقة «الصورة الكبيرة» عن حياة الأفراد الفعلية وعلاقتهم بعضهم ببعض». تبدو هذه الارتحالات التى يتحدث عنها الكاتب الامريكى من أصل إيرانى سالار عبده كسعى للتمعن فى هجرته الشخصية الجائرة التلصص على حياته التى لا يعرفها عبر تجارب العالقين فى الشتات. بصمة «الطرد» المحفورة فى الداخل من ذلك المكان الذى يكمن خارج حدود كل شيء. خارج الوطن والأراضى الغريبة حيث «النجاة» بمعناها الحاسم فكرة ملغزة، تراوغ تخطى المحن المباشرة، واجتياز الانتهاكات الواضحة، والشروع فى حياة أخرى، غير مهددة بصراعات سابقة. هنا تبدو «الخبرة» كأنها تكريس ل «النزوح»، حيث «النفى» يصبح أكثر بداهة كلما افُترض إمكانية بناء واقع آمن، محصن من أشباح الذاكرة. كلما تصوّر النازح أن ثمة سبيلًا لحمايته من علامة غيابه. من كونه مستلبًا خارج ملكوته الخاص، المناقض للشر الذى يتسيّد فضاءات العالم. «فى هذه الرواية أنا واقعى جدًّا، فالعديد من المواقف والتفاصيل نبع من واقع خبرتى الشخصية، فأنا رأيت، وسمعت، وتألمت نفسيًّا، وفكرت فيما هو أكثر. أردت أن أقدم شخصيات من بكين، أن أكتب عن مشاعرهم وعواطفهم وحيرتهم التى ظلت عالقة بذهنى منذ كنت طالبًا جامعيًّا؛ ربما لأنى - آنذاك- لم أتمكن من حل أزمة الهُوِيَّة نفسيًّا فى مدينة حديثة مثل بكين وعلى الرغم من أن لديَّ شهادة جامعية من جامعة بكين، فإنى كتبت عنهم، أولئك الذين يعيشون فى الظل من المدينة. الهُوِيَّة ليست عائقًا، فأنا أكتب لهم وأكتب عن نفسى أيضًا». الكاتب الصينى شيو تسى تشين يقدم الكتابة ك «خبرة مضادة»، أى أنها تقوم على أنقاض المعرفة الناتجة عن التجارب الخاصة؛ فالألم يهدم اليقين، ويُبقى التجربة سؤالًا مفتوحًا، مناوئًا للغموض واحتفالًا به. سؤالًا شخصيًا، ينطوى على كل ما لدى الآخرين من رؤى وأحلام، وتقوده الرغبة فى استعادة الوجود المفقود للذات. الاسترجاع الفعلى لما يناوشه الخيال ولا يقبض عليه أو يبصره. كأن هذه المناوشة هى الاستعادة نفسها لذلك الوجود المفقود. كأن النص هو الجسر والمستقَر، عبور الأنا الذى لا يتوقف عبر تغيرات وتحولات أبدية نحو ظلامها. «قرأت شهادات حقيقية لمهاجرين من القُصّر شديدى القسوة. أردت أن أروى قصة المنفى الطوعى هذه فى شكل حكاية شعرية لا تشير إلى مكان ولا تاريخ محدد. إنها قصة رمزية تركز على الحلم والأمل اللذين يحفزان المهاجرين الشباب من جميع أنحاء العالم. فى هذا الشكل الشعرى بدا لى أن كتابة «أرض الأحلام» أفضل طريقة لمشاركة المراهقين المشاعر التى شعرت بها عند قراءة شهادات كل هؤلاء الشباب الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم فى نفس سنهم». يحوم حديث الكاتب والأكاديمى الفرنسى السنغالى ديفيد ديوب حول النزوح كاستعارة تتعدّى «المنفى الطوعى»؛ فكل حكاية عن «الاضطرار للمغادرة» تستبطن انشغالًا بكينونة أساسية، مبهمة، انتُزعَت من الأنا قبل سقوطها الهزلى والمأساوى فى متاهات الفقدان والرحيل قبل أن تكون صوتًا زائلًا يجاهد لتقويض الصمت الذى يطمس جوهر شقائه المكابدة الأعمق من كل إكراه أو استبداد جغرافى تخطه شهادات المهاجرين. «كنت أمر مصادفةً بالمقابر، فعثرت على شاهد لمقبرة جماعية. كان ذلك فى أثناء إعداد موضوع صحفى عن تاريخ فنلندا، فقرأت كثيرًا عن السنوات العجاف، كذلك قرأت بعض الشهادات التى كتبها مَن عاصروا هذه الفترة الصعبة صحيح أنهم جميعًا كانوا أطفالًا حينئذ، ولكن الذكريات الحزينة عاشت معهم». هذه الذكريات التى يشير إليها الكاتب الفنلندى آكى أوليكانين ينبغى أن تثير تساؤلًا أصيلًا، يتوارى عادة وراء شواهد «المقابر الجماعية»: ما الذى ضاع حقًا؟. حياة ما قبل الموت أم ما قبل «اللااستقرار»؟ ما الذى تنشد القوارب الورقية الوصول إليه أو تعويضه فعلًا؟ كيف وأين كانت روح الكائن التى لا تفنى؟ التى لا تستحق أن تفنى؟ تساؤل يخاتل ابتذال الكارثة. يعيدها إلى منطقها الأوّلى، يحررها من الاستعلاء الميتافيزيقى، حيث لا خطاب مطلق ينجو من حرق مبرراته بنفسه.