خرجت من العراق بحثا عن الحرية بعد إعدام أخى البلاد تنسب لمثقفيها .. لا أباطرة الحكام استئصال داعش للحضارة مستحيل أخشى أن يمل قرائي كما جرى لفوينتس تصالحت مع هويتي .. والانغلاق سبب مأساة العرب ضحايا العنف ليسوا أرقاما .. لكنهم أحلام تكسرت لماذا نلهث وراء من استعمرونا .. ونترك شركاءنا؟! الرجل الذى نبش " حدائق الرئيس " ليكشف عن ضحاياه و مقابره الجماعية ، ناثرا " الفتيت المبعثر " من بقايا الحروب التى عانت العراق من ويلاتها ، وباسطا كفيه لجمع شتات مواطنيه .. هو الكاتب و المترجم العراقى محسن الرملى الذى خرج من العراق مضطهدا بعد إعدام أخيه الكاتب حسن مطلك لمعارضته نظام صدام حسين ، ليبدأ فى رحلة البحث عن الحرية و الإنسان و التصالح مع الهوية ، و التي نعيشها معه في السطور التالية.. لماذا اضطررت لترك وطنك؟ خرجت من العراق عام 1993 بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية التى دامت 3 سنوات و كنت فيها قائد دبابة . وقد صار من الصعب البقاء بالعراق بعد إعدام أخى الكاتب حسن مطلك على يد نظام صدام حسين بتهمة قلب نظام الحكم ، و إغلاق كل الأبواب أمامى من فرص العمل و النشر . كنت أعانى من اختناقات عديدة وسط الديكتاتورية و الحصار، و لم أكن أقبل أن أنشر فى صحيفة نظام قتل أخى ، فخرجت من العراق بحثا عن الحرية لا شيئا آخر . سافرت إلى الأردن لمدة عامين و عملت فى كل المهن ، فعملت فى الحدائق و قطف الزيتون و البرتقال ، كما عملت فى المطاعم و البناء ، و مع ذلك ظللت أكتب فى الصحافة ، و بعدها سافرت إلى أسبانيا لأدرس فى جامعة مدريد دون منحة ، و لم يكن معى سوى مائتى دولار . بدأت تعلم الإسبانية من جديد و العمل ليل نهار لتغطية مصاريف الدراسة ، واجهتنى الكثير من الصعوبات ، و مع ذلك أنهيت دراستى و حصلت على الدكتوراة فى عام 2003 ، و بعدها بدأت الأمور فى التحسن بعد عملى فى جامعة "سانت لويس" الأمريكية في مدريد ، و مازلت أحيا و أدرس فى مدريد بعد 22 عاما من رحيلى عن العراق . رغم المرارة التي تجرعتها بالوطن .. لكننا نراه حاضرا بقوة فى كتاباتك ! بالفعل فعلى الرغم من خروجى من العراق و لكنى لم أستطع أن أخرج عنه فى كتاباتى ، فالعراق يسكننى ، و لكنى أخشى أن يمل قرائى لأن أغلبهم ليسوا عراقيين ، بل عرب و أجانب و أكثرهم من أمريكا اللاتينية ، فأخشى أن يحدث معى ما حدث مع كارلوس فوينتوس عندما مل قراؤه لأن كل رواياته عن المكسيك . و " حدائق الرئيس " روايتى الأخيرة ضخمة تتناول العراق على مدى الخمسين عاما الأخيرة و حتى سقوط بغداد فى يد أمريكا ، و كأنى أردت أن أقول كل شئ حتى انتهى من استحواذ العراق على . أتمنى أن أكتب فى موضوعات أخرى، و خاصة الروايات الخيالية ، فنحن فى العالم العربى نعانى من أن معظم كتابتنا واقعية ، و العالم ينتظر منا الخيال الجديد ، فمازالت أشهر الأعمال العربية فى الغرب "ألف ليلة و ليلة" ، أما الواقع فتمتلئ به الفضائيات . حدثنا عن أجواء روايتك الأحدث ، والتي تختصر سيرة العراق؟ فى الرواية تناولت العراق منذ عام 1948 أو حرب فلسطين التى شارك فيها أبى و آخرين ، و دخول العراقالكويت ، و الحرب العراقية الإيرانية ، و الحرب الأهلية بالعراق " حرب الشمال " الكردى ، ثم ما عايشته العراق من حصار و ديكتاتورية و مقابر جماعية ، إلى الحرب الأخيرة مع أمريكا و الظروف التى أحاطت بها ،و سقوط بغداد ، أما بعد السقوط فيحتاج لعمل آخر . كان اهتمامى بكل تلك السنوات و ما حملته من خراب ، هو الخراب الذى حدث بالإنسان و كيف قاومه ، و لم أعنى الخراب المادى كالأماكن ، فالإنسان هو ما تدور حوله كتاباتى، أما المكان فهو عامل خارجى كالملابس تحتوينا و تعطى صورة عنا ، و لكنها ليست نحن . ماذا قصدت بعنوان الرواية؟ أقصد بالحدائق " المقابر الجماعية " أو ما خلفته يداه، وهى نوع من السخرية المرة، فالبطل الرئيسى يدفن جثث ضحاياه فى حدائق يمضى وقته فيها و يزهو بنصره !. " حدائق الرئيس " محاولة لفهم عراق اليوم من خلال معرفة ما حدث فى عراق الأمس ، وأسبابه و جذوره ، و ماذا جرى للإنسان ، دائما ما تخرج علينا الفضائيات لتذيع مقتل 100 عراقى أو ألف عراقى ، يتعاملون معهم على أنهم أرقام ، لكن هؤلاء بشر لهم عائلة و تاريخ و أحلام، بينما ضحايا مركز التجارة العالمى فى أمريكا تم بث قصصهم و قصص جيرانهم ، تعاملوا معهم على أنهم بشر لا مجرد رقم، و يحزننى هذه العنصرية حتى تجاه الضحايا و تصنيفهم ، رغم أنهم متساوون فى الموت و فى كونهم ضحية . هل تغير المواطن العراقي بفعل أجواء العنف؟ لقد مر العراقيون بالكثير ، لو كتبنا مليون سنة لن نفى ما حدث ، لأن كل عراقى له قصص لا تنتهى يوميا ، تستيقظ على انفجارات لها علاقة بجهة سياسية أو بتدخل آخر ، فتختلف الساحة السياسية ، و الناس تختلف ، فالعراق يتغير يوميا دون أن يعطى لنا متنفسا حتى للكتابة عما حدث . و مع ذلك لا أفقد ثقتى فى قدرة الشعوب على النهوض ، لأن العراق تعرض لحروب و ابتلاءات كثيرة ، و لا أحد يستطيع أن يمحو شعبا كاملا ، نعانى كثيرا و لكن يبقى هناك أمل بانتصار الحياة . فى روايتك " تمر الأصابع " عرضت لثلاث أجيال عايشوا الاستبداد وأزمة الهوية ، حدثنا عنها ؟ هذه الرواية هى تجربتى الذاتية بين ثقافتين ، بين ديكتاتورية و حرية ، بين تقاليد و دين ، تلك الثنائيات التى عايشتها عندما انتقلت لأسبانيا واصطدامى بالثقافة الجديدة ، فلم أكتبها كرواية و لكن فى دفتر يومياتى . كتبتها لأعرف ماذا يحدث فى داخلى و ما أعانيه من تناقضات ، و كنت أجد نفسى أكتب بالعربية و الإسبانية فى ذات الوقت ، و بعد انتهائى من المسودة صدرت الأول بالإسبانية ثم بالعربية . " تمر الأصابع " تجمع بين عالمين ، الغرب أعجب بالعالم الذى يتحدث عن العراق والشرق ،و الجانب العربى انجذب لعالم الغرب ، فسعدت أنى استطعت أن أجذب العالمين لبعضهما . هل لا تزال تشعر بالاغتراب ؟ لم أعد أشعر بالاغتراب أو المنفى ، فوفقا للمفهوم البابلى :" المنفى منفى زمانى لا مكانى " ، كنت فى البداية أعانى منها كثنائية ككثير من المهاجرين ، و الآن أنا متكيف مع هويتى التى تجمع بين بلدين و ثقافتين. فلماذا يجب أن أكون شرقى أو غربى و أعانى ، فلقد توصلت بداخلى لحالة تصالح، و تخلصت من تلك الثنائية فأنا عراقى و أسبانى فى نفس الوقت ، توحدت إنسانيا ، فما الثقافة و الهوية إلا نتاج إنسانى ، فهذه مسألة ذهنية ، و الأجيال الجديدة لم يعد يقلقها مسألة الهوية مع التكنولوجيا و العوالم المفتوحة التى جعلتهم أبناء يومهم أكثر من أبناء تراثهم . وماذا عن عبارتك .. اكتب ما تشاء فلن يحدث أسوء مما حدث ؟ نعم ، لأن نظرتى بالأصل تشاؤمية تجاه العالم ، و عندما تكون فاقد الأمل فى كل شئ ، يصبح أى شئ يبث لك الأمل . كيف ترى حال العراق حاليا مع الوجود الداعشى ؟ مسألة العراق معقدة جدا ، و قطعا لها أسبابها الواقعية و السياسية و الجغرافية و التاريخية ، و أنا ضد أى أيديولوجيا تعتمد على الموت فى فرض أفكارها و مع كل من يدعو للانتصار للحياة ، أهلى فى العراق مشردون و مقتولون وبعضهم يعانى تحت حكم داعش ، لا استطيع أن أفكر فى حل للوضع ، فحالى أصبح كالعراق فى " حالة طوارئ " ، و أحاول مساعدة العراقيين النازحين بقدر ما استطعت . و الكاتب يجب أن يترك مسافة بينه وبين الحدث ليتأمله و يستطيع أن يعبر عنه بعيدا عن التشويش و الغموض و الضبابية التى تسود الوضع الحالى، فالرواية تشكل رؤية كاملة عن الحدث ، لهذا عندنا روايات قليلة بالعراق ، بينما العراق معروفة بالشعر لأنه يولد فى حماسة الحدث و اللحظة ، و العراق هى البلد الأول فى إنتاج الشعر كميا و نوعيا بحسب معرفتى ، فأنا أمكث فى أسبانيا بلد الشعر فى أوروبا ،و لكن تظل العراق الأكثر إنتاجا له . ما دور المثقف فى اللحظات الصعبة من عمر الوطن ؟ المثقف مسكين ، و أنا ضد من يرددون أن المثقفين ليس لهم دور بالثورة ، بل بالعكس فالمثقف يقوم بتضحية طويلة الأمد ، و التأثير الذى يصنعه ليس مباشرا ، و لكنهم على مر الزمان هم من يتصدون لموجات الديكتاتورية ، فعندما ضحى أخى بحياته و غيره من المثقفين ، فهل خرج الشعب إلى الشارع ؟! لماذا الآن عندما خرجوا يتهمون المثقف بأنه لم يفعل شئ و يتساءلون أين المثقف ؟ ، و هم من عارضوا السلطات فى أصعب الظروف و ضحوا بحياتهم و سجنوا و اعتقلوا ، فلماذا لا يسأل المثقف أين كان الشعب ؟ المثقف دوما كان دوره تنويريا ، و الشعوب التى تنتصر هى الشعوب التى تحترم مثقفيها ، أما الشعوب التى تزدرى المثقفين فلا يقوم لها قائمة ، و لهذا نحن نقول هذا بلد " نيرودا " ، هذا بلد " ثربنتس " ، هذا بلد " نجيب محفوظ " ، و لا نقول هذا بلد الإمبراطور أو الجنرال ، فكفى ظلما للمثقف و المبدع . كيف ترى حال الأدب العربى بشكل عام ، و العراقى بشكل خاص ؟ لدينا إنتاج كمى مزدهر ، و لكننا نحتاج لحركة فكرية نقدية تغربل للقارئ العربى هذا الإنتاج الهائل . حدثنا عن تجربتك فى أسبانيا ؟ و مدى إطلاعهم على الأدب العربى ؟ هناك من يدرس اللغة العربية يجد عملا بسهولة فى المخابرات ،الشركات ، السياحة ، الشرطة و أى شئ ، و هذا أمر إيجابى للغة العربية ، و فى أمريكا اللاتينية يشكون من عدم قدرتهم على الإطلاع على الأدب العربى الجديد ، و لكن هناك تقصير من كلا الجانبين فى الترجمة عن الآخر ، رغم الشبه الكبير بيننا ، فلقد مرت أمريكا اللاتينية بثورات و انقلابات عسكرية ، حتى وصلوا لبداية الاستقرار الديمقراطى . و نحن كعرب مقصرون فيما يخص أمريكا اللاتينية ، فنحن نتبع الفرنسى و الانجليزي و نترجم لهم رغم أن بيننا و بينهم دم ، خلفته سنين الاستعمار المريرة ، أما أمريكا اللاتينية الذى صنفنا العالم مثلهم " عالم ثالث " ، و ليس بيننا و بينهم دم فنحن لا نحاول التعاون معهم ؟ ، رغم أن بمعايشتى لهم وجدتهم يتضامنون مع قضايانا بشكل غير طبيعى و يرفعون أعلام فلسطين و سوريا و العراق ، و يكتبون قصائد عن العربى . لو كان فى يدى سلطة لجعلت فى كل بلد عربى "وزارة للترجمة" ، فسبب تعاستنا هو انغلاقنا ، العالم يتغير ، و نحن ما نزال نقرأ ماركيز على أنه آخر صرعة فى أدب أمريكا اللاتينية ، بينما أعماله تعد هناك من الأعمال الكلاسيكية . ماذا تكتب حاليا ؟ أكتب رواية عن " الحب " حتى الآن ، و لكن العراق ما يزال يلح ، و هو حاضر فى خلفية الرواية ، التى حاولت من خلالها النفاذ لأعماق المرأة العراقية و معرفة منظورها للحب فى وسط ما تعايشه من مآسٍ ، خلال الأربعين سنة الأخيرة ، الحب الذى أصبح بين الحصار و الحرب أشبه ب " العيب " ، فى ظل الديكتاتورية و التقتيل و الحصار ، فماذا فعلت تلك المرأة ؟ . لذا حتى فى حديثى عن الحب .. العراق حاضر ، و لم أستطع حتى الآن أن أكتب عن تجربتى فى الأردن و بلدان أخرى و الثقافة الجديدة ، فالعراق لا يتركنى و إن أنا تركته .