تمثل الرسوم الجدارية المصرية القديمة واحدة من أرقى أشكال التعبير الفني في تاريخ الحضارة، إذ امتزج فيها الإبداع بالدلالة الرمزية، والعلم بالتجربة. لم تكن الألوان عنصرًا تجميليًا فقط، بل جزء من منظومة روحية ورمزية متكاملة، نفّذها الفنان المصري بدقة ووعي بطبيعة الخامة وطول بقائها عبر الزمن.. ومع ما تواجهه هذه الجداريات اليوم من تحديات بيئية وتدهور طبيعي، تبرز أهمية دراسة تقنيات المصري القديم في صناعة اللون وصيانة الجدران، وهي الأساس الذي ينطلق منه المرممون المعاصرون للحفاظ على هذا التراث البصري الفريد. أولًا: فلسفة اللون في مصر القديمة كان اللون يحمل في مصر القديمة قيمة رمزية ودينية تتجاوز الجمالية، فالأزرق ارتبط بالسماء والقدسية، والأخضر بالحياة والخصوبة، والأحمر بالقوة، بينما مثّل الأسود مبدأ الخصب والتجدد. وأشار فاروق شرف، استشاري ترميم الآثار، في دراساته حول منهج الفنان المصري القديم، إلى أن المصريين وضعوا «نظامًا تقنيًا دقيقًا» لصناعة اللون، يعتمد على اختيار خامات معدنية مستقرة، وطحنها بدقة، وخلطها بروابط عضوية وجيرية تتوافق مع طبقات الجص. يؤكد «شرف»، أن هذا الوعي التقني هو ما ضمن ثبات الألوان آلاف السنين. اقرأ أيضا| حكايات| ب«وشوش أصيلة».. أسوانية تحول جدران النوبة للوحات فنية ثانيًا: صناعة اللون - المواد الخام وتقنيات التحضير اعتمد المصريون على الأصباغ المعدنية غير العضوية، لما لها من ثبات ضوئي وكيميائي؛ شملت المالاخيت، الأزرق المصري، الأكاسيد بأنواعها، الأبيض الكلسي، والأسود الكربوني، كما طوّروا طرقًا لصناعة الألوان، مثل تصنيع الأزرق المصري عبر مزج الرمل والكالسيوم والنحاس والقلويات وتسخينها لإنتاج بلورات cuprorivaite، وهو أول صباغ صناعي عرفته البشرية. ثالثًا: تقنيات التنفيذ على الجدران اعتمد الفنانون على تقنية التمبرا الجافة (Secco)، حيث تُطبَّق الألوان فوق جص جاف مع روابط خفيفة من الصمغ والغراء وصفار البيض. تتكون الرسوم من عدة طبقات: 1- الجدار الحجري 2- ملاط خشن 3- طبقة جص ناعم 4- طبقة اللون وكان ضبط سمك كل طبقة جزءً من الحرفة. رابعًا: تثبيت اللون في العصور القديمة من عوامل الثبات: إدخال الحبيبات داخل مسام الجص تماسك الروابط العضوية التوافق الكيميائي بين الصباغ والسطح ثبات الأصباغ المعدنية بطبيعتها البلورية وهو ما أشار إليه فاروق شرف في تحليله لخصائص اللون القديم، مؤكدًا أن الفنان كان على وعي ب"التوافق البنائي" بين الصباغ والملاط. خامسًا: الحماية عبر العصور - رؤية المصري القديم تجلت حماية الرسوم في ثلاثة مستويات: مواد ثابتة ودائمة تصميم معماري يحمي الجدران من الشمس والرطوبة صيانة دورية طقسية لبعض المقابر والمعابد سادسًا: عوامل التلف تشمل: الرطوبة وتسرب المياه الأملاح الصاعدة التغيرات الحرارية التفاعل البيولوجي تراكم الأتربة وتُعد الأملاح الأخطر لارتباطها بالتقشر والتساقط. سابعًا: منهج الترميم الحديث يعتمد على منهج عالمي يشمل: 1- التشخيص والفحص والتحليل 2- تثبيت اللون 3- إزالة الأملاح 4- تدعيم الجص 5- التنظيف الجاف أو الهلامي 6- استخدام مواد قابلة للعكس مثل Paraloid B72 7- المراقبة البيئية المستمرة ويرى فاروق شرف أن أهم مبادئ الترميم هو احترام المواد الأصلية وتجنّب أي تدخل غير قابل للإزالة. ثامنًا: العزل الوقائي يُستخدم العزل في الحدود التي لا تغيّر المظهر البصري، ومن المواد المناسبة: Funori محاليل جيرية خفيفة Primal SF-016 بشرط أن تكون قابلة للإزالة ونفّاذة للبخار. تكشف دراسة الرسوم الجدارية المصرية القديمة عن عبقرية تقنية تجاوزت حدود الفن إلى هندسة المواد وحسابات دوامها، ولقد عرف الفنان المصري القديم كيفية إعداد اللون وتثبيته وصيانته في منظومة متكاملة أثبتت قدرتها على مقاومة الزمن، وتبقى كتابات فاروق شرف مرجعًا مهمًا لفهم أسس هذا النظام ومبادئ الترميم الأخلاقي وأهمية احترام أصالة الأثر.