نجوى بن شتوان محاولة النَّجاةِ من موت ما بعدَ الموتِ كلما التفَتُّ إلى الخلف، إلى تلك النسخ القديمة من نفسى، إلى الذوات التى تركتُها ورائى فى محطات العمر المتفرّقة، أجدنى أمام سؤالين لا ينفكّان يلاحقانني: كيف وصلتُ إلى الكتابة؟ ولماذا أصبحتُ ما أنا عليه اليوم؟ هل كان هذا قدرى المحتوم منذ البداية، أم أنّه طريقٌ من طُرُقِ (روبرت فروست) صنعتُه باختيارى، فأصبحتُ مسئولةً عمّا قادنى إلى اللحظة الراهنة، وصاغ منى المرأة والكاتبة التى أنا عليها الآن؟ ومع تلك الحيرة التى أحملها فى نفسى، غالبًا ما وجدتنى أقدّم فى الملتقيات الأدبية والثقافية ب: «الروائية والأكاديمية القادمة من ليبيا» تعريف عملى مقتضب، أشبه بما هو مكتوب فى جواز سفرى الذى ينضوى على صورتين وتعريفين مختلفين لى: صفحة من بلدى الأم تحمل بياناتى الرسمية، وأخرى من دولة عربية أقيم فيها؛ عرّفتنى بوصفى «أديبة». ربما كنت من القليلات اللواتى حملن أوراقًا تعريفية للعالم بذلك الازدواج الغريب! مثل تلك الوقائع الصغيرة كانت مجرّد حوافزَ هامشيةٍ دفعت بى نحو كينونتى. ثمّة ما هو أعمق وأكثر إلحاحًا: محاولةُ الإمساك بملامحى، والنجاةُ بالذاكرة من الموت، والخشيةُ على حكايتى من العبث بها. ذات مرة، وقعت بين يديّ سيرةٌ لكاتبةٍ عربيةٍ راحلةٍ ماتت ثلاث مرات: مرةً وهى على قيد الحياة، ومرةً بالموت الطبيعى، ومرةً ثالثة بعدما نبش فى سيرتها كاتبٌ تحصّل على منحةٍ باسمها لإنجاز كتاب عنها، فكانت كتابته سيرةً مشوّهةً لنسخةٍ لا تُشبهها ولا تُعبّر عن محنتها الحقيقية، ولا تُجسّد معاناتها فى الوطن ولا فى المهجر الذى رحلت إليه. كانت نبشاً فى قبرها باسم الأدب، بدل أن تكون كتابةً لفهمها وردّ الاعتبار إليها. تحسّستُ قلمى آنذاك بخوفٍ: ماذا لو تعرّضتُ للمصير ذاته بعد رحيلى؟ ولماذا يكتب رجلٌ عنّى، ولا أكتب أنا عن نفسي؟ ماذا لو صيغت حياتى وفقًا لرغبات الآخرين ودوافعهم، وليس وفقًا لحقيقتى؟ شيئًا فشيئًا، اقتربتُ من فكرة الكتاب، وشرعتُ فى تجسيدها. لعلّى أُشجّع غيرى من الكاتبات على كتابة قصصهنّ وسيرهنّ وهنّ ما زلن بعدُ على قيد الحياة؛ لعلّى أمنع السطو على حياة النساء واستباحتها فى منطقتنا المعتادة على ذلك، حيث لا يتردّد الشعراء والكتّاب فى انتحال صوت المرأة وتحويلها إلى «منتج» باسمهم قابلٍ للمرابحة. لديّ رغبةٌ فى أن تبقى حكايتى ملكًا لى، وأن أقدّم نفسى كما أعرفها أنا، لا كما يُعاد تشكيلها فى قوالب لا تخدم إلا من يصطنعها. كانت خشيتى الحقيقية قبل هذا الكتاب من أن يُسرق وجهى وصوتى منى إلى الأبد. كتب عنى لأضمن أن تُروى قصتى كما عشتُها أنا، لا كما يريد أحدٌ أن يعيد اختراعها. ولعلنى كتبتُ عن آخرين لم أقصدهم أو أعنيهم بينما أحفر فى المكوّنات التى صنعتنى: العائلة، المجتمع، المدرسة، اللغة، والخيال... أى كلّ ما ترك أثرًا أو ندبةً فى ملامحى ووعيى وكيانى. ثم وضعتُ القلم وانتهيت، بعد أن مشيتُ طويلًا بأفكار الكتاب ما بين شوارع روما و أزقة «توريشيلا بلينيا»، بلدة الكاتب الإيطالى – الأمريكى «جون فانتى»، وبعد أن قطعتُ أميالًا طويلة ما بين دبى وإيطاليا، عثرتُ على امرأةٍ ترسم فى الظل، ولها حكايةٌ مختلفة عن حكايتى. استبدلتُ صورتى على الغلاف بلوحةٍ من لوحاتها، فى محاولةٍ منى لإنقاذها من الموت والنسيان. أظنّنى بوجودها على كتابى نجحت فى أن أوجه وجهها إلى العالم بعد أن كانت تدير ظهرها إليه. أرجو أنّ اكون قد فعلتُ الصواب.