كتبت جومانة حداد في مقدمة كتابها «صحبة لصوص النار»، الذي حاورت فيه قامات أدبية مهمة متحدثة عن لهفتها للقاء كتابها المفضلين «لطالما كانت تثير فضولي أعمال الكتاب من جهة، وحيواتهم من جهة أخرى، سيرهم تحديدا، عاداتهم وطقوسهم وتفاصيلهم الصغيرة وأمزجتهم»، كانت تتوق إلى اخاضعهم لنوع من التفكيك بغية حل شيفرة الكاتب ورفع هالته لمعرفة اذا ما كان الإنسان على مستوى الأديب الذي سحرها أم لا، ومن الطبيعي أن نتساءل هل يحمل الكاتب الذي تعرفنا عليه من خلال قراءة كلماته الشخصية نفسها التي رسمناها في مخيلتنا؟ غالبا ما نقرأ الكتب من دون أن نلتقي بالكاتب شخصياً، وما حدث معي هذه المرة مع رواية «زرايب العبيد» هو العكس تماما، إذ حضرت بالصدفة محاضرة للكاتبة نجوى بن شتوان بعنوان: «كيف أصبحت كاتبة»؟ هذا السؤال الذي يتم توجيهه لكل كاتب للتعرف على مسيرته مع الكتابة، والتي تتفاوت فيها الاجابة وتختلف من كاتب لآخر، فهي حتما تجربة شخصية خاصة جدا، إذ يمر الكاتب بمراحل كثيرة مختلفة ليكتب كتاباً ما، وكما يقول ابراهيم نصر الله في تعريف الكتابة «هي مهنة العثور على أسئلة جديدة أكثر عمقا». بدأ المضيف بكلمات تعريفية مليئة بالدهشة وذلك في مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، أحد المشاريع الانسانية والعمرانية لصون التراث الذي يعتبر منارة للثقافة والفنون في مدينة المحرق بمملكة البحرين، وتحدثت الكاتبة عن روايتها (زرايب العبيد التي صدر منها أربع طبعات عن دار الساقي في بيروت) وترشحت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام ٢٠١٧، أصابني الفضول الشديد والشعور بالحسرة أني خارج حلقة النقاش، إذ إني لم أقرأ الرواية بعد، ولكن لقاء الكاتبة التي تحمل روحاً عميقة وينبثق من عينيها لمعة ذكاء حادة، شعرها القصير جداً وقبعتها المثيرة للانتباه تعكس مزيجاً ما بين الشرق والغرب، كانت تتحدث بسرعة وهي تقرأ من ورقة لتصف تجربتها الخاصة مع الكتابة ورحلتها المشوقة في اكتشاف الذات، كل ذلك جعلني أتحمس لقراءة الرواية بأسرع ما يمكن. نجوى بن شتوان كاتبة وروائية ليبية مقيمة في إيطاليا، لها مؤلفات عديدة في مجال الرواية والقصة والمسرح، حازت على الكثير من الجوائز منها جائزة الرواية العربية، والخرطوم 2005، وجائزة مهرجان الشارقة للإبداع العربي في مجال المسرح ٢٠١٧، وجائزة مؤسسة هاي فيستيفال لأفضل ٣٩ كاتباً عربياً لعام ٢٠٠٩. رفض القوالب امرأة رفضت القوالب المعدة مسبقاً للنساء في مجتمعها، وأدركت باكراً أن تلك القوالب لا تناسبها، واحتاجت لكسر القالب النفسي أولاً والقتال مقابل أن تحصل على ما تريد، ولم يدرك من حولها فن التعامل مع شخص موهوب يحتاج لمعاملة مختلفة، وكما يقول آرتور رامبو: «الدرس الأول لمن يريد أن يكون شاعرا هو المعرفة الكاملة لنفسه، يبحث عن روحه، يفتش عنها يراودها ويتعلمها»، لم تهاب شتوان التحدي ومضت صانعة لقدرها ومسيرتها العلمية التي كلفتها الكثير. تعلمت الايطالية ودرست في جامعة روما للحصول على درجة الدكتواره، وكل ما مرت به من مصاعب في تحقيق طموحها كان إعدادا لها لتكون كاتبة فيما بعد. استمرت الكاتبة في المحاضرة بالتحدث عن تجربتها الشخصية، وقالت إنها درست في مدارس مسائية لمحو الأمية في ليبيا، صبية صغيرة تتلقفها أحاديث الكبيرات، ليس ثمة شيء حولها سوى أناس يتحدثون حول كل شيء، ما أسهم في تكوين مخزون ثري من القصص والحكايات التي كانت تسمعها من تلك النسوة، فهي تحمل ذاكرة شعبية للحكايات استثمرتها شتوان بشكل جيد وخصوصاً في رواية «زرايب العبيد». تحدثت عن ظروف كتابة رواية «زرايب العبيد» حيث بدأت بكتابة ما يشبه القصة القصيرة في عام ٢٠٠٦، ثم توجهت نحو عمل أكبر يستمد جذوره من الواقع لكنه لا يخلو من الخيال، عكفت على كتابة الرواية بوتيرة متواصلة ولساعات طويلة، تبدأ منذ الصباح الباكر وتنتهي ما بعد الظهر من دون توقف، أخذت اسم الحي القديم لأحد مناطق مدينة بنغازي وبدأت في تخيل شكل المكان منذ نحو ٢٠٠ عام، إذ لا يوجد أي معلومات تاريخية أو وثائق مكتوبة يمكن الانطلاق منها، ما عدا بعض الصور التي التقطها رحالة ايطالي مجهول في بداية القرن العشرين إبان دخول ايطاليا لليبيا، تأملت شتوان صورة خالية من التفاصيل لتبدأ بنسج الحكاية ورسم الأبطال وكتابة أحداث الرواية. تتحدث رواية «زرايب العبيد» عن تاريخ العبودية المسكوت عنه في ليبيا، قصة حب فريدة تنشأ بين السيد محمد وخادمته تعويضه، علاقة حب تعد محرمة في عرف السادة الذين اعتادوا على اتخاذ العبدات خليلات، وهذا ما يرفضه المجتمع فيسعى للتفريق بينهم، بطلة الرواية ولدت نتيجة حب غير مقبول، ملامحها غريبة على «زرايب العبيد» ذلك المكان المخصص لإقامة العبيد بعد أن هربوا من سلطة أسيادهم، وقد طحنهم الفقر والظلم فترة انتهاء الحكم العثماني في ليبيا ودخول الاحتلال الايطالي، كتبت شتوان: «كانت ايطاليا من البلدان التي استبدلت عبودية البشر بعبودية الأوطان ترتيباً لبيتها الجديد وفقاً لشعائرها، هكذا ذاب نظام الرق باجتثاثه مرة واحدة، وتحررت تعويضه (بطلة الرواية) وسواها رسمياً، لم يعد بمقدور أحد أن يستعبد أحدا من جديد». كتب الكثير من الكتاب عن الرق منهم ايزابيل الليندي التي كتبت عن العبودية في «الجزيرة تحت البحر» والروائي السوداني حمور زيادة في «شوق الدرويش»، والروائي اليمني علي المقري في «طعم أسود، رائحة سوداء»، لكن شتوان كان لها وجهة نظر مختلفة حول العبودية والعتق في الاسلام فتقول: «التكفير بعتق العبيد مكرمة أعطاها الاسلام لمعتنقيه، لكن الكثيرين يلتزمون بارتكاب الخطايا ولا يلتزمون بالتكفير عنها»، كما كتبت: «الحرية تعطى نظير الخطيئة هذه احدى القواعد الدينية، أي أن يوازي خطؤك حياة انسان آخر كاملة». عالم جديد تبتعد شتوان عن عالم الزرايب وتدخل عالم جديد، عالم أوسع من الأول، مرتبط بالإنسانية ولا دخل له بتصنيف الإنسان إلى لون أو جنس، ولا قيمة فيه لرابطة الدم، تقول على لسان عتيقه ابنة تعويضه بطلة الرواية: «لا أملك أيه روابط في مجتمع تتحكم فيه القربى، أملك عقلاً وقلباً وهو كل ما يتطلبه أن تكون فرداً في العائلة الانسانية والشيء الذي أحمله مخالفا لسمرتي، عرفت أنه في عيني»، حيث يجري في عروقها دم مختلط ولها عينان تصفها بنجمتين أسطوريتين في السماء الماكنة ما بين وسط البلاد وزرايب العبيد. بدأت قصة الحب التي تصنف من قصص الحب الممنوعة بين فئتين مختلفتين بعد منتصف الرواية تقريباً، ذاك النوع من الحب الذي يبدأ فجأة دون مقدمات، فقد كتبت على لسان السيد محمد حين شعر بالحب للمرة الأولى وظل يتساءل «لماذا كان غافلا عن الحب القريب منه كل هذه المدة، وكيف لم يلتفت مرة إلى أن حياته الحقيقية إنما في الجانب الآخر المهمل من بيتهم»؟ كما أضاف: «الحب رائع يا تعويضه، عيشيه ولا تضيعي الوقت في الخوف». وفي إشارة منها للحب تقول شتوان: «من علامات المحبة أن تحب ما تحبه من دون أن تحاول الاجابة: لماذا أحببته»؟ وهذا مبحث وتساؤل كبير يحتمل الكثير من الاجابات، لماذا نحب؟ وكيف نحب؟ هل نختار الحب وننتقي ما نحب أم نحب الحبيب جملة واحده بكل ما فيه من مزايا ومساوئ؟ الحب بين السيد محمد وتعويضه في الرواية كان حبا فوقيا ولم يكن مثاليا، ظل بين سيد وعبد، بقي حبا قاسيا بسبب الظروف المحيطة بهم، وانتشار الطبقية في مجتمع بين أسياد وعبيد، علاقات الحب بين الفئتين عيب ويحاربها الجميع ويعيبونها ويفسدونها بكل السبل، بينما المجاهرة بالكراهية بين الفئتين فهي مقبولة وليست عيباً عندما يصرح بها الإنسان في مجتمعهم، وكما جاء في الرواية «اذا زاد الأمر عن التسري وغداً حباً يساوي بين ذاتين اجتمعتا فيه، آنذاك تصبح الحدود نفسها مدعاة لمحاربته وأصلاً في معاداته، حتماً من غرائب ما حدث للنفس الإنسانية». تحتوي الرواية على الكثير من المشاعر الإنسانية المؤلمة والمواقف التي تبعث الحزن، بكاء العبيد عندما يسمعون ببيعهم وكأنه أول يوم لهم في الرق، يبكون لأن الأوضاع ستتغير مع سيد جديد وعمل جديد ورفاق جدد، على رغم أنهم مجهولو الوجود إلا أنهم يخشون المجهول ذاته، لربما كان حسناً إلى حد ما ولربما أسوأ، لكنهم في الحالين يبكون اعتياد رقهم القديم الذي سيفارقونه برق جديد، ذلك الوصف لمشاعر إنسانية تبدو غير منطقية للوهلة الأولى، لكنها جعلتني أستحضر بطل رواية «الساعة ال25» يوهان مورتيز حين تم نقله من سجن لآخر، وكان فرحاً وهو يستبدل مكان بآخر على رغم أن النتيجة واحدة فهو سجين في كلتا الحالتين وفي جميع الأماكن، فما الذي يجعل الإنسان يخاف المصير نفسه سواء كان الرق أم السجن، هل هو الاعتياد أم الخوف من المجهول على رغم أنه ليس مجهولاً إنما مختلفا فقط. ومن بين الحوارات التي تواصلت في «زرايب العبيد» بين سالم وحسين حول حرية سالم حينما قال حسين: «لا أحد حر صدقني، لا يوجد إنسان حر، فقط يختلف المسجونون وتتباين السجون، يمكنني مساعدتك على إيجاد سبيل نجاة موقت حتى تبرأ آلامك، لكني لا أضمن لك أن تتوقف الآلام عن طرق حياتك». تصف شتوان مشاعر تعويضية في الفصول الأخيرة من الرواية «كأن استسلام الإنسان لمحنته يمنحه مناعة ضد التأثر بها، ما كانت تبكي منه تعويضه لم يعد يبكيها، وما كانت تستاء منه لم يعد يسيء اليها، وما كان يحزنها لم يعد أكثر من ممارسة يومية من الصلاة»، واصفة إحساسها بثقل الزمن كمن نجا من موت ليموت بشيء آخر. وصف متقن نظام التجزئة المقالية الذي استخدمته الكاتبة أسهم في تسهيل القراءة، حيث تحتوي الرواية على الكثير من الوصف البصري المتقن والتفاصيل المرسومة بطريقة تجعلك تشاهد كل شيء بوضوح وكأنك في موقع الحدث، ومن بين ما تحدثت عنه الكاتبة أثناء المحاضرة موهبتها في الاسترسال والوصف التي لا تتوقف وكأنها وحي يتنزل عليها، كما تضمنت الرواية على الكثير من المفردات الليبية الدارجة والأغاني الشعبية بين صفحاتها. وكما قالت الكاتبة الايرلندية إدنا أوبراين: «الكتابة تخرج من الآلام، من الأوقات العصيبة، عندما يكون القلب مجروحا»، تحدثت شتوان عن الظروف النفسية التي صاحبت كتابة الرواية، إذ كتبتها في فترة معاناة بلا مال أو عمل، قليل من الطعام وكثير من المشكلات في ايطاليا، وكانت فرحتها الوحيدة في ذلك الوقت الحزين حين جاءتها موافقة الناشر بعد شهرين من الانتظار، إذ كانت وحيدة ومعزولة على رغم إقامتها المشتركة مع أخريات فإنها تبقى صامتة أغلب الوقت، وقد لا تتكلم لمدة يومين أو ثلاثة إلا اضطراراً، تفكيرها وحديثها كان فقط مع أبطال الزرايب الذين رسمتهم وبدأت برؤيتهم والاحساس بهم. خاضت نجوى بن شتوان مسيرة علمية كلفتها الكثير، إمرأة مغامرة وطريقها كان صعباً لتحقيق ذاتها وفي كونها كاتبة أكثر من كونها أكاديمية، وهي حاليا بصدد كتابة رواية جديدة عن تجارب شخصية عبرت حياتها كما تحلم كغيرها من الكتاب بترك العمل والتفرغ للكتابة، وكما تقول مايا أنجلو: «ليس هناك عذاب أشد من أن تحمل حكاية غير مروية في داخلك».